النظر في المتن مقدم على صحة السند
قاعدة مهمة تعبّر عن مبدأ نقدي مهم في دراسة الحديث، وهو محل نقاش واسع بين العلماء القدامى والمعاصرين. إليك تحليلًا واضحاً موجزًا لهذه القاعدة التجديدية المهمة:
أولاً: المعنى العام
المقصود أن دراسة مضمون الحديث (المتن)، من حيث معقوليته واتساقه مع القرآن والعقل والواقع، وضبطه مع قواعد اللغة العربية يجب أن تسبق التثبت من السند.
أي أنه لا يكفي أن يكون الإسناد صحيحًا من حيث الرجال والاتصال، بل لا بد أن يُعرض المتن على معايير النقد العقلي والنقلي للتأكد من سلامته.
ثانيًا: الموقف التقليدي
اعتمد المحدثون الأوائل – كالبخاري ومسلم – على سلامة السند كمدخل أساسي للحكم على الحديث، مع إشارةٍ إلى نقد المتن في حالات قليلة (كالشذوذ والعلة).
لكنهم في الغالب قدّموا السند على المتن، انطلاقًا من مبدأ «الإسناد من الدين» وحرصًا على الضبط التاريخي للرواية.
ثالثًا: تطور الفكرة في النقد الحديثي
في مراحل لاحقة، برز علماء – مثل ابن القيم، وابن الجوزي، ثم المتأخرين كالشاطبي وابن خلدون – شددوا على أن الحديث الصحيح الإسناد قد يُردّ إذا خالف المعقول أو القطعي من النصوص.
وفي العصر الحديث، توسّع باحثون كأحمد أمين، ومحمد الغزالي، ومحمود أبو رية، وغيرهم، في القول إن نقد المتن هو الأصل، وأن الإسناد وسيلة لا غاية.
رابعًا: التحليل المنهجي
النظر في المتن لا يعني إلغاء السند، بل هو تصحيح للتوازن المنهجي.
فالسند يضمن النقل، والمتن يضمن المعنى.
ومتى ثبت تعارض الحديث مع قطعيٍّ من القرآن أو العقل أو الواقع التاريخي الموثق، فإن ذلك يوجب التوقف والنقد، ولو كان السند صحيحًا ظاهريًا.
مثال:
الرواية التي جاءت في كتاب البخاري، والتي تذكر أن ملك الموت جاء إلى موسى -عليه السلام-
مضمون الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- اذكره مختصراً..
جاء ملك الموت إلى موسى -عليه السلام- على هيئة رجل ليقبض روحه، ولم يكن موسى يعلم أنه ملك الموت.
عندما طلب منه ملك الموت أن يجيب ربه (أي يسلم روحه)، قام موسى -عليه السلام- بلطمه على عينه، ففقأها. وقد فعل ذلك دفاعاً عن نفسه لأنه لم يعرفه، أو لأنه كره الموت في ذلك الحين.
رجع ملك الموت إلى الله تعالى، وقال: "إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني".
فرد الله إليه عينه، وقال له: "ارجع إلى عبدي، فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة".
عاد ملك الموت إلى موسى وأخبره بذلك، فقال موسى: "ثم مه؟" (أي ماذا بعد ذلك؟)، قال: "ثم تموت".
قال موسى: "فالآن من قريب"، ثم سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر.. الى آخر الرواية..
هذه الرواية او الحديث مخالف للعقل والمنطق ومخالف للنصوص القرآنية الكريمة.. وقد تكون قد دُست على كتاب البخاري.
فهذه الرواية او الحديث لا يصح متناً رغم صحته سنداً وقس على ذلك الكثير من الأحاديث والمرويات المتراكمة في كتب الحديث والتاريخ والتي بحاجة الى دراسة وبحث عميق.
الخلاصة..
إذن، تقديم النظر في المتن على صحة السند هو دعوة إلى تكامل المنهجين: أن يكون نقد المتن خطوةً أولى في التوثيق، يعقبها نقد السند في ضوء القيم والمقاصد المنهجية العقلية العلمية.
بهذا يتجدد علم الحديث، ويستعيد وظيفته المعرفية الكبرى: التحقق من الحقيقة لا مجرد توثيق الرواية.
الأستاذ : أبوالحارث الدليمي







إرسال تعليق