نظرة الزهاد والوعاظ وأصحاب نظرية الحكم الإلهي للطابع الديني للدولة الأموية وخلفائها
من الممكن لنا أن نعتبر أن الفكرة التي كانت سائدة فيما مضى عن علاقة الأمويين بالدين الإسلامي هي فكرة ملفقة مختلقة
فطبقا للتقاليد والروايات العباسية تم تصوير الأمويين وروح حكمهم أنهم في تعارض شديد مع مطالب الإسلام الدينية
وتم تصوير خلفاء وعمال وولاة هذه الدولة كأنهم خلفاء ورثة لأعداء الإسلام, وأن الروح القرشية القديمة المعادية للإسلام في الجاهلية عادت وظهرت على يد الأمويين
ومما لا ريب فيه أن بنو أمية لم يكونوا متظاهرين بالتقوى "رياء", وحياتهم في قصورهم وبلاطهم لا تحقق من كل الوجوه ما كان ينتظره "الزهاد والوعاظ" من رؤساء الدولة الإسلامية, ورغم البيانات الدقيقة التي وصلتنا عن الميول التقية لخلفاء بني أمية, لكنها لم ترض طبقة الزهاد والوعاظ بأي حال
على أننا لا ننكر أنهم باعتبارهم خلفاء كانوا يدركون مركزهم على رأس دولة مؤسسة على دين راسخ, وكانوا يدركون أي خلفاء بني أمية أنهم أنصار الإسلام الخلصاء
ومن البديهي أن هناك فرقا كبيرا بين الطريقة التي كان يفهمها خلفاء الأمويين عن حكومة الأمة الإسلامية , وبين ما كان ينتظره الزهاد والوعاظ, لذلك كانوا يلاحقونهم بغضبهم رغم عدم قدرتهم على فعل شيء
وبطبيعة الحال نرى أن أناسا من أمثال أصحاب هذه العقلية هم الذين ندين لهم بالقسم الأكبر مما وصل إلينا من تاريخ الأمويين , فمن وجهة نظر قراء القرآن "الموالي" كان الأمويون لا يفهمون حق الفهم واجبهم نحو الإسلام
ولا ريب أن ظهور الأمويين كان فاتحة "أسلوب" نظام حكم جديد, لأنهم نظروا إلى الإسلام من وجهة السياسة التي جمعت شتات العرب وسارت بهم في طريق سيادة العالم, والرضا والسرور الذي وجدوه في الإسلام كان من أسسه الهامة أنهم أدركوا بالإسلام شرفا وغلبوا الأمم وحووا مراتبهم ومواريثهم
وقد كانت المحافظة على قوة الإسلام ومضاعفتها في الداخل والخارج هو ما اعتبره الأمويون أهم واجبات الخلفاء
وبالرغم من مظاهر الاحترام التي أظهرها الأمويون لقرابة النبي, لكنهم حاربوا منهم المطالبين بالعرش, لأن الأمويون في رأيهم لا يفصلون بين صالح الإسلام وصالح الدولة
لذلك كان أنصارهم المخلصون يدركون أن الأمويين في أعمالهم مخلصون للإسلام
أما القصاص والوعاظ فإنه لم يرق لهم ما أحدثه الأمويون من تغيير, ذلك لأنهم كانوا يحلمون بمملكة ليست من هذا العالم, وكانوا يعارضون الأمويين بمختلف التعاليل والأسباب, وكانوا يقاومون الروح التي تسيرها في حكمها
وفي رأي غالبية هؤلاء الوعاظ والقراء المتذمرين, كانت السيادة التي أقامتها تلك الأسرة على أساس من النظام الوراثي المعيب قد وُلدت في الإثم, بل كان نظام الحكم الجديد نظاما غير شرعي ولا يتفق في نظر هؤلاء الحالمين, لأنه لم يحقق مثلهم الأعلى الذي يقوم على دعامة من الحكم الإلهي
كما كان يعد عقبة في تأسيس دولة مرضية عند الله, وهي المملكة التي كانوا يتمنونها
ولا عجب فقد تجاهل نظام الحكم الأموي مزاعم قرابة النبي بأن لهم حقوق سياسية, لذلك كان من واجب حزب الموالي والهاشميين أن يحارب هؤلاء الأمويين إلى النهاية, أو على الأقل أن يتخذ إزاءهم موقفا سلبيا
وأن يمتنع عن أي مظهر من مظاهر الاعتراف بسيادتهم وسلطانهم
وتبين أن الاحتكام إلى الله أو ترك الأمر لله واللعنات التي كان يصبها الوعاظ والقصاصون على الأمويين كانت من الأسلحة التي لا تجدي فتيلا, وعليه وضعوا رجاءهم في الآمال الصامتة التي خرجت منها فكرة المهدي
والتي وفقت بين الواقع والمثل الأعلى, وبدا على إثرها الاعتقاد الراسخ في ظهور حاكم إلهي يوجهه الله توجيها حسنا
وهنا قطف العباسيون ثمار جهود العلويين الفكرية , إذ أن الانقلاب الذي جاء بالعباسيين إلى مركز الخلافة لم يكن إنقلابا سياسيا فحسب, وتغيير مُلك بمُلك
لكنه في الوقت نفسه أظهر تغييرا عميقا في العلاقات الدينية, فبدلا من الأمويين الذين حُكِم عليهم بأنهم أهل دُنيا, والذين اهتموا في بلاطهم بدمشق وفي قصورهم بالصحراء بالمثل والتقاليد العربية القديمة, بدل هؤلاء جاءت سلطة كهنوتية "عباسية" ذات أفكار "كنسية"
فكما أسس العباسيون حقهم في السلطان على أنهم من نسل النبي, كذلك ادّعوا أنهم يؤسسون حكومتهم الموافقة لسنة النبي وما يتطلبه الدين, وقد اجتهدوا في الاحتفاظ بهذا المظهر لأن حقهم يقوم عليه, وعلى هذا فلم يقبلوا فقط أن يكونوا ملوكا بل أرادوا أولا أن يُحسبوا أنهم أمراء دينيين
وأن تفهم حكومتهم على أنها حكومة دينية, وفي حكومتهم –مخالفين في ذلك حكومة الأمويين- كان القانون الديني ألذي رسموه هو السبيل الوحيد الذي يجب السير عليه, وحاولوا خلافا للأمويين أيضا أن يكون هذا الادعاء حقا في الظاهر لعبا منهم بالحق العائلي الذي توصلوا به للحكم
وأفاضوا في الكلام المدهون في تقديس الذكريات النبوية, وفي كلام ظاهره الصلاح, مريدين في هذا وذاك أن يظهروا مخالفتهم لأسيادهم, وقد تجنب الأمويون هذا النفاق, ولو أنهم كانوا ممتلئين بحب العقيدة الإسلامية, فإنهم لم يراؤوا في وظيفتهم بالرجوع إلى الناحية الدينية
وهكذا كان القول التقي والجمل الخاشعة شعار العباسيين, أولئك الذين كانوا محاطين بالمظاهر الخارجية التي كانت عند ملوك الفرس من آل ساسان, كما أن المثل الأعلى للحكومة الفارسية من تآخي الدين والدولة كان المنهج الظاهر للدولة العباسية .
الأستاذ : ابراهيم بالحمر
إرسال تعليق