الجاهلية و وَأْد البنات: كيف صُنِعَت التهمة ولُصِقَت بالعرب؟

الكاتب: مركز الفكر الرابع للدراسات والبحوث العلميةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق


الجاهلية و وَأْد البنات: كيف صُنِعَت التهمة ولُصِقَت بالعرب؟

أسطورة تأسست على الكراهية

منذ زمن بعيد، تتردد على المنابر وفي كتب التاريخ الشعبية قصة مروّعة: العرب في جاهليتهم كانوا يدفنون بناتهم أحياءً، في ممارسة وحشية تُعرف بـ"وأد البنات". ولتكتمل الصورة الدرامية، تُنسَب أبشع صور هذه الجريمة إلى أحد أعظم رموز العرب والإسلام، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حكاية ملفقة يظهر فيها وهو يدفن ابنته الصغيرة بيده ثم يبكي ندمًا بعد الإسلام.

هذه الصورة النمطية، رغم انتشارها، ليست سوى بناء تاريخي ضخم من الأكاذيب والتضخيم، تم نسجه في بيئات شعوبية معادية للعرب، وتحديدًا في الكوفة على أيدي رواة من أصول فارسية. الهدف لم يكن مجرد سرد قصة، بل كان طعنًا في ذاكرة الأمة العربية ورموزها. لقد ارتبطت صناعة هذه الصورة بالحاجة السياسية الملحة لدى الموالي بعد سقوط الدولة الساسانية؛ وهي إذلال الذاكرة العربية وتصوير العرب على أنهم "جاؤوا من صحراء بلا حضارة" لتبرير تفوقهم الحضاري المزعوم.

استغرق الأمر سنوات طويلة من البحث والتدقيق لإدراك أن هذه التهمة، التي أُلصقت بالعرب وحدهم، هي في الحقيقة ممارسة عالمية كانت منتشرة عند أمم أخرى، بل ومُقنّنة كواجب ديني أو اجتماعي لديهم، بينما لا يوجد دليل تاريخي واحد ومستقل يثبت أنها كانت ظاهرة عامة عند العرب. هي مثال صارخ على الإسقّاط النفسي؛ عملية يقوم فيها المهزوم بتحميل المنتصر عيوبه وجرائمه لينظف تاريخه ويلوث تاريخ عدوه. إنها حلقة في سلسلة طويلة وممنهجة من الأكاذيب التي صاغها الشعوبيون من أصول فارسية، ليس فقط بدافع الحقد، بل كاستراتيجية لسرقة أمجاد العرب وتلبيسهم عارًا لم يكن يومًا لهم.

هذا المقال سيكشف كيف أن تهمة "وأد البنات" لم تكن سوى إسقاطٍ لـ"قذارة" كانت متجذرة في ثقافتهم، وكيف تم تحويلها ببراعة لتصبح وصمة عار عربية.


أولًا: قصة عمر رضي الله عنه - الرواية التي فضحت نفسها

القصة الشهيرة التي يرويها القصاصون عن وأد عمر لابنته هي قصة مكذوبة لا أصل لها. لا توجد في أي من كتب الحديث المعتمدة (كالبخاري ومسلم)، ولا في كتب السيرة الموثوقة، ولا تُروى بسند صحيح يمكن الاعتماد عليه. أجمع المحققون من أهل العلم على أنها من وضع القُصّاص ورواة الأخبار الضعفاء في الكوفة وخراسان.

لكن السؤال الأهم: لماذا اختير عمر بالذات؟

الجواب يكمن في الرمزية. عمر بن الخطاب هو الذي قهر الإمبراطورية الفارسية الساسانية وأطفأ نار المجوسية. استهدافه شخصيًا بهذه التهمة البشعة هو محاولة لهدم رمزيته، وتصوير "فاتح بلاد فارس" على أنه مجرم همجي. إنها ضربة انتقامية من الذاكرة الشعوبية التي لم تنس هزيمتها. الرواة الذين أشاعوا هذه القصص، مثل ابن إسحاق وأبو مخنف وهشام بن الكلبي، كانوا ينشطون في بيئة الكوفة والبصرة، وهي حواضر شكّلت فيها الموالي من أصول فارسية ثقلًا ثقافيًا وسياسيًا، وحمل الكثير منهم ضغينة ضد الدولة العربية التي قامت على أنقاض إمبراطوريتهم.


ثانيًا: القرآن الكريم - إدانة للفعل وكيف تم تحريفه

قبل الخوض في الآية الكريمة، من الضروري التوقف عند معنى كلمة "وأد" نفسها، التي تم اختزالها عمدًا في صورة درامية واحدة. ففي أصل اللغة، الوأد هو القتل المبكر لشيء أو التخلص منه في مهده قبل أن ينمو ويشتد. إنه إخمادٌ للحياة الغضة في بدايتها، ولا يعني بالضرورة "الدفن حيًا" كما تم تصويره لاحقًا. وبهذا المعنى الواسع، فإن "الموءودة" في القرآن هي كل نفسٍ قُتلت ظلمًا في مهدها، بغض النظر عن الطريقة.

يستند مروّجو هذه التهمة إلى آيات القرآن الكريم كدليل إثبات. لكن قراءة متأنية تكشف العكس تمامًا. قال تعالى:

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (سورة التكوير، 8-9)

القرآن هنا -يدين الفعل نفسه- كجريمة قتل الاناث الرضع، لكنه لم يحدد عرقًا أو قبيلة. فكيف تحولت هذه الإدانة العالمية إلى تهمة عرقية؟

يكشف لنا تتبع طبقات التفسير عن القصة الكاملة: كان تفسير الجيل الأول، جيل الصحابة، كنبع الماء الصافي؛ واضح، ودقيقًا، مرتبطًا بما سمعوه من النبي وبلغة العرب التي نزل بها الوحي. وخير مثال على ذلك قول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير "الموءودة"، حيث قال بإيجاز بليغ: "الجارية التي تُقتل ظلمًا". انتهى. لا تفاصيل دموية، لا "دفن حيًا"، ولا قصص درامية.

ابن مسعود: عندما سئل؟ قال هم البنات الرضع يقتلون ضلما! ايضا لا تفاصيل دموية، لا "دفن حيًا"، ولا قصص درامية. ان كان هذا الفعل شائع كما يدعي الشعوبية فلم يسال ابن عباس وابن مسعود عن هذا الفعل وماذا يعني؟ وهم من جيل الصحابة؟

ولكن مع مرور الزمن، وفي بيئات الكوفة حيث اختلط العرب بالموالي الفرس اللذين اسرو من بقايا الامبراطورية الساسانية، بدأت طبقة جديدة من الروايات تتشكل. في هذه الطبقة التالية، بدأ الرواة الفرس يضيفون قصصًا وتمثيلات درامية لم يقلها الصحابة قط او العرب قط. وهنا، وعلى يد مقاتل بن سليمان (ت. 150 هـ) (مولى فارسي الاصل)، ظهرت لأول مرة صورة "الدفن حيًا" الحسية التي التصقت بالواقعة. هو اول من اضاف تلك الاضافة الدرامية وهو الدفن حي. لم يقله احد قبله لا القران ولا العرب.

ثم جاءالطبري الفارسي الاصل ايضا من شمال ايران (310 هـ) اي بعد 310 سنة من هجرة الرسول من مكة ال المدينة، فجمع في تفسيره الضخم كل ما وصل من القصاين والاخباريين واليهود والنصارى. فصار مرجعًا هائلاً، لكنه كان موسوعة روايات لا كتاب غربلة وتمحيص. وضمن ما جمعه، روّج لرواية "الدفن حيًا" وأضاف إليها تهمة "العرب يفعلون". وهو اول من اضاف ان هذه كانت عادة عربية قبل الاسلام. فكيف علم الطبري بكل هذا ما لم يعلمه احد قبله؟

وجاء من بعدهم، كابن كثير (ت. 774 هـ) وغيره، فأعادوا تدوير تلك الروايات التي جمعها الطبري، حتى استقرت في الوعي الجمعي وصارت كأنها هي الأصل الذي لا يُناقش.

وهكذا، طبقةً بعد طبقة، غطّت روايات الموالي الأعجمية وقصصهم الدرامية على تفسير الصحابة الأصيل، فصار الناس اليوم يرددون ما قاله مقاتل والطبري،
بينما يختفي صوت ابن عباس تحت ركام الروايات المتأخرة.


ثالثًا: من كان يمارس وأد البنات حقًا؟ شهادات التاريخ

عندما نبحث في سجلات الأمم الأخرى، نجد أن وأد البنات وقتل الأطفال غير المرغوب فيهم كان ممارسة شائعة وموثقة، بل ومبررة دينيًا وفلسفيًا.

1 الفرس الزرادشتيون: واجب ديني للطهارة

في الديانة الزرادشتية، كانت المرأة النفساء تعتبر "نجسة". كتبهم الدينية، مثل "الفنديداد" (جزء من الأفستا)، مليئة بقوانين الطهارة الصارمة التي تعزل المرأة. في هذا المناخ الديني، كان التخلص من المواليد الإناث يُعتبر وسيلة للحفاظ على الطهارة. لقد كانوا يقتلون البنات كواجب ديني ويتزوجون من أخواتهم، كما وثّق سترابو (المؤرخ اليوناني) في كتابه (Geographica 15.3.14).

2 الرومان واليونان: حق قانوني وفلسفي

كان القانون الروماني يمنح الأب (Pater familias) سلطة مطلقة على حياة وموت أطفاله. أما عند اليونان، فقد برّر الفلاسفة هذه الممارسة. أرسطو في كتابه "السياسة" وأفلاطون في "الجمهورية" تحدثا بصراحة عن ضرورة التخلص من الأطفال الضعفاء أو المشوهين للحفاظ على قوة الدولة.

3 الهنود: عادة اجتماعية حتى العصر الحديث

في الهند، كان وأد الإناث شائعًا بين طبقات معينة (مثل الراجبوت) لأسباب اقتصادية. كانت الممارسة منتشرة لدرجة أن الاستعمار البريطاني أصدر قانونًا خاصًا عام 1870 (Female Infanticide Prevention Act) لمحاربتها ومنعها بالقوة.

4 الصينيون: تاريخ طويل من وأد الإناث

تذكر السجلات الصينية منذ عهد أسرة هان (200 ق.م) أن قتل المواليد الإناث كان شائعًا لتخفيف العبء الاقتصادي على الأسر. وقد وصف المبشرون الأوروبيون في القرن السادس عشر، مثل ماتيو ريتشي، كيف كانوا يشاهدون جثث الرضع الإناث تُلقى في الأنهار وأكوام القمامة بشكل يومي.


رابعًا: أين الشواهد على ممارسة العرب للوأد؟

إذا كانت هذه الظاهرة عادة عربية عامة كما يدّعون، فلماذا لا نجد لها أثرًا في مصادرهم أو في شهادات جيرانهم؟

  • الشعر الجاهلي: ديوان العرب وسجل حياتهم. آلاف القصائد وصلت إلينا، لكن لا يوجد بيت شعر واحد يصف أو يفتخر أو حتى يندم على وأد بنت.
  • علم الأنساب: العرب أمة مهووسة بحفظ أنسابها. لو كان الوأد عادة عامة، لحدث خلل ديموغرافي هائل ولانقطعت سلاسل نسب كثيرة. لكننا نجد أنسابًا متصلة ومحفوظة بدقة.
  • شهادات المؤرخين الأجانب: مؤرخون مثل هيرودوتس وسترابو وبليني كتبوا عن جزيرة العرب بالتفصيل، ولم يذكر أي منهم هذه العادة المروعة.
  • صمت الآثار والقبور: وهو الدليل المادي القاطع. لا يوجد أثر أثري واحد (مقابر جماعية لأطفال أو بنات) في الجزيرة العربية يوحي بظاهرة ممنهجة. بينما في الصين والهند وُجدت شواهد أثرية ونصوص قانونية صريحة.

والسوال الهم هنا اذا كان العرب يقتلون بناتهم كيف كانو يتكلثرون وهم معزولون عن باقي الامم؟ لم تثبت حالة واحدة لبنت دفنت حية.


إعادة تعريف الجاهلية وهدم أساس الدعاية

إن حجر الزاوية في الدعاية الشعوبية هو تصوير "الجاهلية" على أنها بربرية مطلقة. لكن هذا تحريف للمعنى القرآني والسني. "الجاهلية" في الأصل لا تعني الهمجية، بل تعني الجهل بالتوحيد. كان عند العرب قيم كالكرم والشجاعة أقرها الإسلام، مما ينسف أساس الدعاية التي تصورهم كحيوانات همجية.

الخاتمة: إعادة كتابة التاريخ بإنصاف

لقد تم اختطاف تاريخنا وتلويثه بـ"إسقاطات" نفسية وثقافية من أعدائه. الجريمة التي مارسها الفرس كطقس ديني، والرومان كحق قانوني، والهند كعادة اجتماعية، تم نزعها من سياقها وإلصاقها بالعرب وحدهم. تمت العملية على ثلاث مراحل:

  1. الصناعة الشعوبية: رواة فرس في الكوفة نسجوا الأكاذيب للانتقام الرمزي من العرب.
  2. الترويج الاستشراقي: تبنى المستشرقون الأوروبيون هذه الصورة لتبرير نظرتهم الدونية للعرب.
  3. الترديد الداخلي: قام بعض الخطباء والمؤرخين بترديد هذه الروايات دون تحقيق، مما رسخها في الوعي الشعبي.

. وأد البنات لم يكن جاهلية عربية، بل كان جاهلية فارسية، ورومانية، ويونانية، وهندية، وصينية. القرآن لم يدن العرب، بل أدان الجريمة. ومن الظلم التاريخي أن نحمّل أجدادنا تهمة كان يرتكبها العالم كله، بينما هم الوحيدون الذين لا يوجد دليل مادي أو تاريخي مستقل يدينهم بها كظاهرة عامة.


الأستاذ : علي التميمي




شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

5530503018128628799

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث