حروب الردة والفتوحات والصراعات: بين التشيع العقائدي والتشيع العاطفي
يرى الشيعة أن القبائل التي ارتدت عن الإسلام في مختلف أنحاء الجزيرة العربية، حتى لم يبقَ إلا مكة والمدينة، لم تكن مرتدةً بالمعنى العقدي، وإنما كانت رافضة لبيعة أبي بكر، وأن تمردها كان بمثابة ثورة لمناصرة علي بن أبي طالب في استعادة حقه في الولاية. كما يرون أن التمرد على الخليفة عثمان بن عفان لم يكن سوى ثورة لاستعادة الولاية لصاحبها علي، وهي الثورة الثانية التي نجحت في ما فشلت فيه ثورة المرتدين ضد مخرجات السقيفة. ويعتقدون كذلك أن تمرد الحسين، ثم تمرد زيد، فيحيى، كانت ثورات فشلت في إسقاط حكم بني أمية، تأتي في سياق الثورات التي بدأت بثورات المرتدين ضد الصديق. كما يعتبرون أن جميع التمردات التي تلتها، من انقلاب أبي مسلم الخراساني إلى تمرد النفس الزكية، مرورًا بحركات الهادويين والبويهيين والعبيديين والصفويين، وصولًا إلى ثورة الخميني وتمرد الحوثيين في العصر الحديث، هي امتداد لتلك الثورات وجزء من الصراع المستمر ضد مخرجات السقيفة التي جاءت بأبي بكر خليفة للمسلمين. كما يذهبون إلى أن الفتوحات الإسلامية، التي انطلقت بعد إعادة توحيد الجزيرة العربية وامتدت إلى حدود الصين شرقًا، وشمال إفريقيا غربًا، وأرمينيا والأناضول وآسيا الوسطى وقبرص شمالًا، لم تكن إلا حروبًا توسعية هدفها سفك الدماء، والسبي، والغنائم، والمكاسب المادية. ويستدلون على ذلك بعدم مبايعة علي لأبي بكر إلا متأخرًا، وبعدم مشاركته في حروب الردة، التي، بحسب رأيهم، لم تكن تهدف إلا إلى تثبيت حكم أبي بكر، وليس لإحقاق الحق. وكذلك بعدم مشاركته في الفتوحات الإسلامية، التي لم تكن تحت راية الحق وفق اعتقادهم. في المقابل، يرى المسلمون السنة أن حروب الردة من أعظم الإنجازات التي قام بها الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ، إذ أسهمت في تثبيت أركان الدولة وحفظ بيضة الإسلام. كما أنهم يرون الفتوحات من أعظم إنجازات الصحابة والتابعين، حيث أسهمت في نشر الإسلام، وهداية الناس، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية. أما التمرد على الخليفة عثمان، فالسنة مختلفون بشأن توصيفه، لكنهم متفقون على أنه قُتل شهيدًا مظلومًا بُغي عليه. كما أنهم متفقون على أن عثمان أفضل من علي، مع اعترافهم بشرعية خلافة علي وبراءته من دم عثمان. ومتفقون أيضاً على المقولة المشهورة: "أولئك قوم قد عصم الله أيدينا من دمائهم، فلنعصم ألسنتنا من الخوض فيما شجر بينهم"، وهي مقولة أصبحت من الأصول عند أهل السنة، حيث يمتنعون عن الخوض في تفاصيل مقتل الخليفة عثمان ، وأسباب التمرد عليه، أو مناقشة هوية قاتليه، واين ذهبوا بعد فعلتهم، وما دور علي في البغي على الخليفة، وعن تفاصيل تنصيب علي وبيعته، وما إلى ذلك من الأمور التي لا تجد لها اجابه واضحه. وفيما يتعلق بالأحداث التي جرت بعد الفتنة، فإن المسلمين لا يختلفون كثيرًا عن الشيعة في تبرير موقف علي، لكنهم يخالفونهم في عدم تكفير أم المؤمنين عائشة، وطلحة، والزبير، ومعاوية، بل يرون أنهم اجتهدوا وأخطأوا ثم عادوا عن خطئهم. ورغم أن هذا هو الرأي السائد عند غالبية المسلمين، إلا أنه رأي محكوماً بالعواطف، لا يستند إلى الحقائق، بل ويناقض ما هو مدون في كثير من كتب أئمة السنة. أما بشأن معاوية، فإن الرأي الغالب عند المسلمين أنه صحابي جليل، وملك صالح، أخطأ بعدم بيعته لعلي، لكنه كان مصيبًا في المطالبة بدم عثمان. وفي المقابل، يرون أن عليًّا كان مصيبًا في عدم تسليم قتلة عثمان، ويبررون له كل شيء، بينما يخطّئون كل من كان في الجهة المقابلة. وإذا شعروا أنهم في مأزق، عادوا وتحصنوا خلف تلك المقولة: "أولئك قوم قد عصم الله أيدينا من دمائهم، فلنعصم ألسنتنا من الخوض فيما شجر بينهم". وإذا اشتد عليهم الخناق، حمّلوا عبد الله بن سبأ كل المسؤولية، ثم يرضون عن الجميع، من علي وآله إلى أم المؤمنين وطلحة والزبير ومعاوية ومن كان بصفهم. أما بشأن صلح الخليفة معاوية والحسن بن علي، فإن أهل السنة يعزون كل الفضل للحسن في المصالحة واجتماع المسلمين في عام الجماعة، متجاهلين فضل معاوية، رغم أنه كان الأقوى وصاحب الشوكة، والقدرة على حسم الأمر عسكريًا إن أراد، لكنه قبل الصلح بشروط الحسن مقابل امتيازات له ولجماعته. ويظهر هنا، وفيما سبق، أن تغليب معايير صلة القرابة بالنبي هو الذي يحكم العقلية السنية، وليس معايير الحق والباطل، أو الصواب والخطأ، أو المصلحة والمفسدة. فقد تمادوا في تجاهل مقام أم المؤمنين، ليس فقط بمساواتها بعلي، بل بتخطئتها ثم القول بتوبتها، وكأنها أقل شأنًا في الدين والدنيا، بينما هي أعلى شأنًا من أبيها وعمر وعثمان، فما بالك بعلي؟ بل لا أُخطئ إن قلت إنها معصومة من الخطأ عصمةً تبعيةً لعصمة النبي ﷺ، إذ لا ينبغي لمن اختارها الله لنبيه في الدنيا والآخرة إلا أن تكون معصومة لأجله. يتبع ...الأستاذ : عبدالكريم عمران
إرسال تعليق