من الحضارة العربية الى الشعوبية المقنّعة .. كيف استُبدل المجد العربي براية أممية زائفة
حين يُطرح مصطلح "الحضارة الإسلامية" في الأوساط الأكاديمية والثقافية ، يصفِّق الكثيرون لهذا التوصيف على أنه "جامع مانع" لكنَّه في الحقيقة غطاء شعوبي "مموَّه" سُوِّق له منذ العصر العباسي لخدمة مشروع فكري معادٍ للعرب محمَّلٌ بنزعة انتقامية من إرثهم ، ولسلبهم ريادتهم وتذويبهم في دوائر أممية مصطنعة ..!!
الحقيقة التاريخية الثابتة أن الحضارة التي انطلقت من الجزيرة لم تكن "إسلامية" بهوية منفصلة عن العروبة ، بل كانت عربية الجوهر - عربية اللغة - عربية الرؤية - عربية الأبطال والقادة والمبدعين ..
الإسلام كان نوراً هادياً أضاء طريق العرب وفتح لهم أبواب السيادة والرسالة ، لكنَّه لم يأتِ ليطمس قوميتهم ، بل على العكس جاء ليزكِّيها ويرفعها فوق الأمم ..
كيف يُعقل أن تكون حضارة النبي العربي ، والقرآن العربي ، والخلفاء العرب ، والمجاهدين العرب ، واللغة العربية ، حضارة "أُممية" بلا هوية قومية ؟!
إن تحويل الحضارة العربية إلى مجرَّد "حضارة إسلامية" هو خدعة شعوبية كبرى بدأت منذ لحظة دخول الموالي إلى مفاصل السلطة والثقافة ، وتكرَّست في العصر العباسي ، حيث راح بعض المؤرخين والفقهاء واللغويين من أصل فارسي أو تركي يصيغون روايات تمجِّد الأعاجم وتهمِّش العرب ، وتسوِّق أن الفضل كل الفضل للموالي ، وتُركَّب الأحاديث والآثار لتزكية الفرس والترك على العرب تحت شعارات "لا فضل لعربي على أعجمي" التي نُزعت من سياقها العقدي لتُستثمر سياسياً وثقافياً ضد العرب ..
لا تضاد بين الإسلام والعروبة ، فالإسلام هو الذي نظَّم العرب ورفعهم من قبائل متفرِّقة إلى أمَّة موحدة قادت العالم ، والقرآن صريح في تفضيل العرب من حيث اللغة والبلاغة والاصطفاء :
{ وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } – [ طه : 113 ]
العروبة ليست جاهلية ، بل وعاء الرسالة ، فمن يزعم أن الانتماء العربي نقيض للإسلام فهو إما مغفَّل أو شعوبي موتور ، فالعرب لم يكونوا مجرَّد حَمَلة للإسلام ، بل كانوا صنّاع حضارته ، وحُماته ، ورموزه …
الشعوبية لبست لباس "الأُممية" ، وتحت هذا الغطاء تمَّ ترويج أن البطولة الأعجمية أعظم ، وأن العقل الفارسي أذكى ، وأن العرب كانوا مجرَّد بداوة خُدِموا بالإسلام ولم يخدموه ..
النموذج العباسي شاهد حي على هذا الانحراف
فمع مجيء الدولة العباسية انتعشت التيارات المعادية للعرب من فقهاء الموالي ووعَّاظهم ، وبرزت أسماء مثل عبدالرزاق الصنعاني ، والأعمش ، وابن إسحاق ، والواقدي ، ولوط بن يحيى ، وابن السائب الكلبي ، وابنه هشام ، وإبراهيم بن سيار النظَّام ، وغيرهم ممن استخدموا الدين والتاريخ والأدب والفكر لتصفية الحساب مع العرب ..
نحن لا نرفض الإسلام ، بل نرفض اختطافه من قبل الشعوبيين والأُمميين لتهميش دور العرب وتشويه تاريخهم ، ونرفض أن تُحوَّل حضارة العرب المسلمين إلى فسيفساء شعوب لا يجمعها إلا اسم "إسلامي" بلا روح ، ولا لغة ، ولا عمق ..
لن تستقيم النهضة اليوم إلَّا بعودة العرب إلى قيادة مشروعهم القومي الحضاري كعرب مسلمين أحرار ، لا أذيال في مشروع أُممي مستورد ، وهجين ، فالعروبة والإسلام ليسا خصمين متضادين ، بل جناحان لا يطير التاريخ إلَّا بهما ، وهما القاعدتين الأساسيتين الصلبتين التي تُّبنى عليها الحضارة الإنسانية في كلِّ دورة حضارية عربية في التاريخ ..
الأستاذ والباحث : وليد الزهراني
إرسال تعليق