مناظرة ابن عباس للخوارج .. من اساطير البلاط العباسي
مناظرة ابن عباس للخوارج : تلك المسرحية المؤلَّفة في دهاليز البلاط العباسي .. انتشرت في بعض كتب الحديث والتفسير رواية مفادها أن عبدالله بن عباس خرج إلى الخوارج بعد "التحكيم" ، فخاطبهم وحاورهم ، فردَّ عليهم حججهم ، فرجع منهم أربعة آلاف وبقي البقية على ضلالهم ، وقد اشتهرت هذه الرواية حتَّى صار يتم تداولها بكثرة في المجالس العلمية والوعظية دون أدنى تحقيق أو تمحيص .. غير أن هذه الرواية عند التحقيق الدقيق لا تصمد أمام النقد العلمي سواء من جهة السند أو المتن ، بل إنها تمثِّل أنموذجاً واضحاً على الدعاية الشعوبية التي راجت في العصر العباسي تحت ستار الفضائل والمناقب ، وهي جزء من منظومة هدفها تشويه خصوم التيَّار العباسي الفكري ، وخلق صورة مثالية لأتباعهم ومن ارتبط بهم سياسياً .. • أولاً : نقد السند .. سقوط من أول الطريق !! الرواية الأقدم والأشهر جاءت من طريق عبدالرزاق الصنعاني "مولى" ، عن معمر بن راشد "مولى" ، عن أيوب السختياني "مولى" ، عن أبي قلابة الجرمي البصري "مولى" ، قال : « جاء ابن عباس إلى الخوارج … إلخ الرواية انظر : (المصنَّف لعبدالرزاق ، ج10 ص150 رقم الرواية : 18678) » ، ولنا معها ثلاث وقفات : 1 - انقطاع في السند ( إرسال واضح ) حيث أن القاعدة الأُصولية في علم الحديث إذا قال الرواي المباشر قال كذا ولم يصرِّح بالسماع فالرواية "مُرسلة" ، وهنا أبو قلابة الجرمي توفي في 107 هـ وابن عباس توفي في 68 هـ ، فهو يروي عن حدث في زمن لم يعشه وقع سنة 37 هـ تقريباً ، وهذا يجعل الرواية مرسلة منقطعة ، لا تصلح للاحتجاج ولا حتَّى للترجيح .. 2 - ضعف عبدالرزاق الصنعاني في هذا الباب رغم توثيق البعض له في الرواية ، فقد طُعن في معتقده وهواه ، وكان ممن يوالي تيارات منحرفة عقدياً .. - قال الذهبي في ميزان الإعتدال (ج2/ص610) : "كان يتشيع ويحمِل على السلف" - قال ابن عدي في الكامل في الضعفاء (ج5/ص1783) : "عنده مناكير ، وبعض ما يرويه لا يُتابَع عليه" ، ورواياته عن معمر فيها زيادات تخدم الاتجاه الشعوبي الرافضي .. 3 - التفرُّد الغريب ، حيث لم تُروَ هذه القصة عن ابن عباس في كتب المغازي القديمة "كالواقدي أو ابن إسحاق" ، كما لم ترد في كتب أهل الشام ولا مصر ، وإنما انفرد بها رواة الكوفة "حمراء الكوفة" حيث نشأت الشعوبية المبكرة .. ثانياً : نقد المتن .. مشهد دعائي لا يُصدَّق !! 1 - هل يُعقل أن ابن عباس يدخل على 6000 خارجي مسلَّح بلا حماية ؟ هذا يناقض ما هو معروف عن الخوارج في تطرُّفهم وغلوهم الدموي ، وكيف يُقبل بأنهم يتركونه يخترق صفوفهم ويحاورهم دون أن يُمسَّ بأذى ؟ هذا من العبث التصويري ..!! 2 - النبرة المسرحية في الحوار بعبارات مثل : "أتيتكم من عند أصحاب محمد .." ، وهذا أُسلوب يُشبه خُطَب الوعَّاظ لا حوارات الساسة أو العلماء في ميدانٍ مشتعل ، وتسلسل الردود يبدو أقرب إلى الخطط البلاغية الجاهزة لا المطارحات العقلية الواقعية ..!! 3 - 4000 خارجي يذعنون دفعة واحدة ؟؟!! وهذا يناقض سلوك الخوارج التاريخي المعروف بالعناد والتكفير الجماعي ، فمن ذا الذي يُقنع هذا العدد الهائل بحجج ارتجالية في مجلس واحد ؟ • ثالثاً : السياق السياسي للرواية .. صناعة عباسية !! الرواية جاءت في زمن كان فيه العباسيون يُعيدون كتابة التاريخ بما يخدم شرعيتهم ويطعن في خصومهم ، حيث أرادوا تمجيد من يتَّصل بنسبهم ومنهم ابن عباس ، وأرادوا تشويه الخوارج الذين كانوا مصدر إزعاج متكرر لحكمهم ، فرسموا صورة "العالم المتكلِّم الذي أقنعهم بالحجَّة" وأشاعوها ضمن حملة تلميع ممنهجة ، ولم يكن عبدالرزاق الصنعاني إلا أداة من أدوات هذا التيار تمرُّ عبره روايات منحازة بعضها دُسَّ في فضائل ، وبعضها في مثالب .. إذاً الرواية ساقطة جملةً وتفصيلاً بناءً على ما سبق ، فرواية مناظرة ابن عباس للخوارج لا تصحّ سنداً لانقطاعها ، ومتناً فهي تمثيلية ركيكة تُشبه الأدب الوعظي القصصي ، وسياقاً ، فهي صناعة دعائية من مطبخ الدعاية العباسية مرَّت عبر المولى الفارسي المُتشيع عبدالرزاق الصنعاني ومن فوقه من طبقة الموالي الرواه ، وعليه إذاً ، فالباحث الجاد لا يمكن أن يسلِّم بها ولا أن يتعامل معها إلَّا على أنها نموذج على كيفية صناعة السردية التاريخية الرغبوية لا الواقعية !!
الأستاذ والباحث : وليد الزهراني
إرسال تعليق