مصطلح الإجماع ..بين إغلاق النقاش وإقفال العقول
يُعدّ مفهوم الإجماع من المصطلحات الكبرى في التراث الأصولي، وقد رُفع إلى درجة الحجية القطعية في كتب الأصول. إلا أنّ كثيرًا من أهل البحث والتحقيق نقدوا هذا المفهوم من حيث إمكانية تحققه، أو من حيث دقة استعماله تاريخيًا. وبذلك فإن القول بأن "مصطلح الإجماع غير صحيح ولا يوجد إجماع بالمعنى المطلق" ليس رأيًا حادثًا، بل له جذور قوية في تراث العلماء.
أولًا: صعوبة التحقق التاريخي من الإجماع
يؤكد العلماء أن تحقّق الإجماع بمعناه الشامل أمر لا يمكن معرفته، لأن الأمة منثورة في الأمصار ولا سبيل إلى الإحاطة بأقوال جميع العلماء.
أقوال العلماء:
ابن حزم يقول:
"يدّعي قومٌ الإجماع وليس معهم إلا الظن، ولا يحلّ القول على الله بلا علم."
كما يقول: "وأما من ادعى الإجماع فدعواه باطل حتى يأتي ببينة."
الأمدي ( وهو من كبار الأصوليين ) يقول :
"معرفة الإجماع على وجه اليقين متعذرة."
ابن تيمية يقول :
"كثير مما يُدعى فيه الإجماع لا يكون فيه إجماع، بل يكون فيه خلاف معروف."
ويقول كذلك: "من ادعى الإجماع فقد كذب، فما يدريه لعلهم اختلفوا."
هذه الأقوال توضح أن إثبات إجماع قطعي أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا.
ثانيًا: الاختلاف ظاهرة أصلية في الاجتهاد
تنوّع المدارس الفقهية وتعدد طرق الاستنباط دليل على أن الاختلاف هو الأصل في الاجتهاد، وأن الوصول إلى اتفاق شامل أمر غير واقعي.
أقوال العلماء:
الشافعي نفسه يقول — رغم إقراره بالإجماع — ينبه إلى صعوبة إثباته، حيث يقول :
"لا يقال في شيء إنه إجماع إلا ما لا يُعرف فيه خلاف."
وهذا إقرار ضمني بأن معرفة عدم وجود خلاف أمر عسير.
إمام الحرمين الجويني يقول:
"الإحاطة بآراء المجتهدين في كل عصر مما لا يُتصور."
الطبري كان يرى أن كثيرًا من المسائل التي يقال فيها "أجمعوا" هي مسائل فيها خلاف لكنه لم يُعرف على نطاق واسع.
ثالثًا: استعمال الإجماع كسلطة معرفية
أشار عدد من الباحثين إلى أن مصطلح "الإجماع" كثيرًا ما استُخدم كوسيلة لإغلاق النقاش، لا لأنه تحقق فعلاً، بل لترجيح رأي معيّن.
أقوال العلماء:
ابن تيمية ينتقد هذا الاستخدام بقوله:
"كثير من الإجماعات التي تُنقل، يكون منشأها عدم العلم بالمخالف، لا العلم بعدم المخالف."
الآمدي يصف دعوى الإجماع أحيانًا بأنها
"سلاحٌ في يد المناظر."
أي أنها تُستعمل لإسكات الخصم لا لإثبات حقيقة علمية.
رابعًا: غياب آلية حقيقية لتحقيق أو قياس الإجماع
لم يكن لدى المسلمين مؤسسة مركزية تجمع العلماء أو آليات للتصويت أو التوثيق، مما يجعل دعوى الإجماع غير قابلة للتحقق الواقعي.
قول الغزالي:
الغزالي يشير إلى ذلك بقوله:
"ولا يُتصوّر وقوع الإجماع في عصرنا لكثرة العلماء وتفرقهم."
قول الشوكاني:
الشوكاني ينتقد المبالغة في نقل الإجماع قائلًا:
"كم من مسألة ادُّعي فيها الإجماع، وقد وُجد فيها الخلاف الظاهر."
خامسًا: الإجماع مفهوم نظري أكثر منه عملي
كثير من الإجماعات المنقولة ليست إجماعًا بالمعنى الذي يتصوره الأصوليون، بل هي:
-إجماع مجازي غير واقعي .
-اتفاق غالب.
-عدم معرفة المخالف.
-إجماع مدرسة أو جماعة وليس الأمة كلها.
قول داود الظاهري:
"لا يكون إجماع إلا بنص صريح يجتمع عليه الآحاد والجماعات."
وهو يراه أمرًا شبه مستحيل.
سادساً: توظيف الإجماع كسلطة لإغلاق باب البحث والاجتهاد
في كثير من الأحيان استخدم مصطلح الإجماع كأداة لإضفاء الشرعية على رأي معين، وليس لأنه بالفعل رأي متفق عليه. وقد استُخدم المصطلح تاريخيًا لـ:
- وقف الجدل في مسائل خلافية.
- تقوية موقف سياسي أو فكري معيّن.
- ضبط المجتمع وفق رؤية فقهية خاصة.
وبالتالي، أصبح "الإجماع" أحيانًا سلطانًا مُقيداً أكثر منه حقيقة عملية.
الخلاصة
بناءً على استدلالات العلماء والباحثين أنفسهم، يمكن القول إن مصطلح الإجماع — بمعناه القطعي الشامل — مفهوم لا يتحقق في الواقع، وإن معظم ما نُقل من إجماعات إما ناقص التوثيق أو مقيد بمذهب أو زمان أو مكان.
ولذلك، فالقول بأن "مصطلح الإجماع غير صحيح ولا يوجد إجماع حقيقي" له جذور قوية لدى كبار الأصوليين الذين وضعوا شروط الإجماع وضبطوه، ثم انتهوا إلى أنه لا يصلح إلا كمفهوم نظري أكثر منه حقيقة عملية.
الأستاذ : أبوالحارث الدليمي







إرسال تعليق