الجمود الفكري واللجوء إلى التكفير والتبديع والتفسيق

الكاتب: مركز الفكر الرابع للدراسات والبحوث العلميةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق


الجمود الفكري واللجوء إلى التكفير والتبديع والتفسيق 

مقدمة..

هناك عقولٌ تخاف نور الفكر والبحث عن الحقائق ، كما تخاف العيون الضعيفة من وهج الشمس.
عقولٌ ركنت إلى الماضي، وغلّفت أفكارها بجدرانٍ من التقديس، حتى صارت ترى في السؤال خروجًا عن الدين، وفي تحريك العقل والاجتهاد انحرافًا عن الحق، وفي كسر الجمود والتحرر من القوالب كفرًا.
ذلك هو الجمود الفكري، المرض الذي يصيب الأمم حين تعجز عن التفكير، فتسلم عقلها لمن يفكر عنها، وتكتفي بترديد شعاراتمعاقل الكهنوتدون أن تعي معانيها.

من رحم هذا الجمود وُلدت ثلاث كلماتٍ ثقيلة على اللسان والعقل : التكفير، والتبديع، والتفسيق لكل من خالف الموروث الجامد.
كلمات تحوّلت من مفاهيم شرعية إلى أدوات خصومةٍ وتصفيةٍ فكرية، يرفعها دعاة العلم الجامد في وجه كل من يخالفهم، كأنهم ورثة الحقيقة المطلقة.
لكن الحقيقة المطلقة لا يملكها أحد، ولأن الاختلاف سنة كونية، لا خطيئة فكرية.

لقد علّمنا التاريخ أن الأمم لا تنهض بإقفال العقول والتمسك بالقديم وتركه دون تجديد وتحريك، بل بالحوار والتفكر والتدبر وتوظيف العقل.
وأن الدين لا يعيش في قلوبٍ تخاف، بل في عقولٍ تفكر.
كل فكر جامد يُغلق باب النقاش هو خطوة نحو التراجع، وكل من يكفّر المختلف إنما يُقصي نفسه عن إنسانية الفكر.

إن أخطر ما في الجمود أنه يُجمّد الزمن، فيجعلنا نحيا في قوالب الماضي ونحن نظن أننا نحافظ على الدين، بينما نحن نُبعد الناس عنه بسوء الفهم وسوء الخلق.
أما الإسلام، فكان في جوهره ثورة على الجمود، دعوة إلى التفكير، إلىاقرأ، إلىأفلا تعقلون“  ”أفلا يتدبرون“  ”أفلا ينظرون“.

 فلنحرر عقولنا من السجون التي بنيناها حولها، ولنتذكر أن الدين الذي نؤمن به لا يحتاج إلى حراس كهنوت يخيفون الناس، بل إلى علماء مفكرون ربانيون يضيئون الطريق.
إن الله لا يطلب منا أن نكون نسخًا متشابهة، بل أن نكون عقولًا حرة مسؤولة، تسعى للحق بمحبةٍ لا بعداوة.


* يُعدّ الجمود الفكري من أخطر الأزمات التي يمكن أن تصيب العقل الجمعي لأي أمة، لأنه يقف حاجزًا أمام التطور الحضاري والفكري، ويغلق أبواب الاجتهاد والنقاش البناء، ويُولِّد مظاهر متطرفة في التفكير والسلوك، من أبرزها التكفير والتبديع والتفسيق. وهذه المظاهر ليست سوى نتاج مباشر لعقلٍ خائف من التجديد، منغلق على ذاته، يتخذ من الفكر الموروث حصنًا يمنع عنه الرياح الجديدة التي قد تثير الأسئلة أو تعيد النظر في المسلَّمات التي جمدت عليها العقول .

أولاً: مفهوم الجمود الفكري

الجمود الفكري هو حالة من التوقف عن التفكير النقدي والإبداعي، والاكتفاء بترديد ما قيل دون تمحيص أو تطوير. في هذه الحالة، يتحول الفكر إلى قوالب جامدة، ويتحول الدين أو المبدأ إلى شعارات مكررة، تُرفع دون فهم عميق لجوهرها.
وقد نبّه العلماء والمصلحون في التاريخ العربي الإسلامي إلى خطر هذا الجمود، لأنه يُميت روح الاجتهاد التي قامت عليها الحضارة العربية الإسلامية، حيث كان المسلمون  العرب الأوائل يتفاعلون مع النصوص بعقول واعية، ويسألون ويجتهدون ويختلفون في إطار من الأدب والعلم.

ثانيًا: التكفير والتبديع والتفسيقمظاهر الأزمة

حين يُصاب المجتمع بالجمود، يصبح الخلاف الفكري أو الفقهي تهديدًا وجوديًا بدل أن يكون فرصة للوصول الى الحقيقة والغاية المرجوه . ومن هنا تظهر ظاهرة التكفير (اتهام المخالف بالكفر)، والتبديع (اتهامه بالابتداع في الدين)، والتفسيق (اتهامه بالفسق والخروج عن السلوك الشرعي).
هذه الأحكام لا تصدر عادة عن علم راسخ، بل عن تعصبٍ وضيق أفق، إذ يرى أصحابها أنهم يحتكرون الحقيقة، وأن من خالفهم فقد انحرف عن الصراط المستقيم.

ومع مرور الزمن، تتحول هذه الممارسات إلى سلاحٍ لتكميم الأفواه وإسكات كل من يجرؤ على طرح فكرة جديدة أو قراءة مختلفة للنصوص الدينية أو التراثية . وهنا يتحول الدين من منظومة رحمة وعدل إلى أداة قمع فكري واجتماعي، وهو ما يناقض جوهر الرسالة الإسلامية التي قامت على الحرية والمسؤولية الفردية في الإيمان والفكر.

ثالثًا: الأسباب العميقة للجمود الفكري

تتعدد أسباب هذه الظاهرة، ومن أبرزها:

  1. ضعف التربية الفكرية والنقدية في المؤسسات التعليمية والدينية.
  2. الخلط بين الثوابت والمتغيرات، بحيث يُعامل الاجتهاد البشري وكأنه وحي منزل.
  3. الخوف من التجديد بحجة الحفاظ على الهوية أو الدين.
  4. غياب الحوار والانفتاح، وانتشار ثقافة الإقصاء.
  5. استغلال الدين لأغراض سياسية أو مذهبية، حيث يُستخدم التكفير وسيلة لتصفية الخصوم لا لحماية العقيدة.

رابعًا: نحو نهضة فكرية جديدة

لمواجهة عقدة الجمود الفكري، لا بد من إحياء ثقافة الاجتهاد وفتح باب الحوار بين المختلفين، والإحترام وإلتزام الأدب في الحوار.
إن العودة إلى روح الإسلام الأولى تعني العودة إلى قيم العقل والعدل والرحمة، لا إلى قوالب التكرار والاتهام. فالإسلام لا يخاف من الفكر، بل يدعو إليه: يقول الله تعالى في كتابه العظيم..

{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} سورة البقرة111.

كما يجب أن يتحول العلماء المفكرون والمثقفون إلى جسور تواصل بين التراث والواقع، بين النص والعقل، لا إلى حرّاسٍ على أبواب المنع والمناظرة المغلقة وفرض آلية التقليد الأعمى.

خاتمة

إن الجمود الفكري ليس مجرد ضعف في التفكير، بل هو مرضٌ خطير يعطل طاقات الأمة ويزرع الفرقة بين أبنائها. والتكفير والتبديع والتفسيق ليست إلا أعراض هذا المرض.
ولن تخرج الأمة من أزمتها إلا إذا أعادت الاعتبار إلى العقل والحوار والاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى، فبهذه الأدوات وحدها تُبنى الأمم، وتزدهر الحضارات، ويتحقق المقصد الأسمى للدين: تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، بما في ذلك عبودية الفكر المغلق.

الأستاذ : أبوالحارث الدليمي


شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

5530503018128628799

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث