مصطلح الحديث بين الثبات والتجديد: دراسة في الطابع العقلي لعلوم الحديث
المقدمة:
يُعد علم مصطلح الحديث من أهم العلوم التي نشأت في البيئة الإسلامية بهدف حفظ الأحاديث النبوية ومرويات التاريخ وضبط روايتها وتمييز صحيحها من سقيمها. وقد نشأ هذا العلم استجابةً لحاجة علمية وعقدية ملحّة في صدر الإسلام، مع اتساع رقعة دولة العرب المسلمين وتزايد الروايات المنسوبة إلى النبي ﷺ. ومع مرور الزمن، تطوّر هذا العلم وأصبح له منظومة دقيقة من القواعد والمفاهيم مثل "الصحيح" و"الضعيف" و"الحسن" و"المرسل"، وغيرها.
إلا أنّ النظر الدقيق في بنية هذه القواعد ومناهجها يُظهر أنّها في جوهرها ليست نصوصًا مقدسة أو وحيًا منزلاً، بل هي قواعد عقلية وضعها العلماء لتنظيم عملية نقد الرواية وفق معايير موضوعية متاحة في زمانهم. ومن هنا يمكن القول إنّ مصطلح الحديث هو ثمرة اجتهاد بشري، قابل للنقاش والمراجعة والتطوير، شأنه شأن أي علم آخر من العلوم الإنسانية والاجتماعية.
أولًا: نشأة علم مصطلح الحديث وطبيعته العقلية
نشأ هذا العلم تدريجيًا، ولم يكن في زمن الصحابة علمٌ باسم "مصطلح الحديث". بل كانت الممارسة النقدية تتم بصورة فطرية تعتمد على الثقة في الراوي والمعرفة الشخصية به. ومع مرور الوقت، ومع اتساع حركة الرواية، شعر العلماء بضرورة وضع ضوابط عقلية تُحكم عملية النقل. فقاموا بتأسيس قواعد الجرح والتعديل وأنواع الحديث ومراتب الصحة والضعف.
وهذه القواعد لم تُؤخذ عن نصوص شرعية، بل وُضعت بناءً على الاستقراء العقلي للواقع، مما يدل على أن منشأها عقلي بشري، غايته تحقيق الموثوقية في نقل الحديث.
ثانيًا: المصطلح الحديثي كمنظومة بشرية قابلة للتطور
عندما ندرس كتب المحدثين نجد اختلافات في التطبيق بين المدارس والمناهج. فالبخاري مثلاً يشترط اللقاء بين الراويين في الحديث المعنعن، بينما مسلم يكتفي بإمكان اللقاء. كما نجد اختلافًا في تقييم بعض الرواة بين النقاد.
وهذه التباينات تدل على أن المعايير نفسها كانت محل اجتهاد ونقاش، مما يؤكد أن المصطلح الحديثي ليس علمًا جامدًا، بل هو قابل للنقد والتجديد.
وفي العصر الحديث، ظهرت دعوات التجديدية لإعادة النظر في بعض المفاهيم، مثل مفهوم "العدالة" أو "الضبط" أو "الشهرة"، لأنها تستند إلى مقاييس بشرية متغيرة بحسب الزمان والمكان. ومن ثم، فإن تطوير هذه القواعد لا يعني الطعن في السنة، بل يعني تجديد أدوات التحقق منها بما يتناسب مع المناهج العلمية الحديثة.
ثالثًا: علم مصطلح الحديث بين العقل والنقل
رغم أن علم الحديث يخدم النصوص المنقولة، إلا أنه من حيث التكوين علم عقلي في جوهره. فهو يعتمد على أدوات مثل الاستقراء، والتحليل المقارن، واستنتاج القواعد من الوقائع. وهذه كلها عمليات عقلية منهجية تشبه ما يُعرف اليوم بعلم المناهج البحثية في التاريخ أو علوم الأرشيف.
لذلك، فإن وصف علم مصطلح الحديث بأنه “علم شرعي خالص” فيه تجاوز كبير، لأنه في الحقيقة علم وسيلة لا غاية، والعقل هو أداته الأولى. ومن ثم فإن مراجعته أو تطويره لا تمس الثوابت الدينية، بل تُسهم في تجديد المنهج النقدي الإسلامي نفسه.
الخاتمة:
إن علم مصطلح الحديث، بكل ما يتضمنه من قواعد وتصنيفات، هو منجز علمي وعقلي أنتجه الباحثون المهتمون به عبر القرون، بهدف صيانة الحديث من التحريف. لكنه يبقى في جوهره اجتهادًا بشريًا خاضعًا للنقد والمراجعة، شأنه شأن أي منظومة علمية بشرية أخرى.
ومن ثم فإن تطويره أو مناقشة قواعده لا تعني المساس بالمقدس، بل تمثل امتدادًا للروح النقدية التي أسست هذا العلم في الأصل.
الأستاذ : ابو الحارث الدليمي







إرسال تعليق