خامس الخلفاء وثاني الملوك يزيد بن معاوية - حقائق تم اخفائها
على أبي خالد فلتبكي البواكي !!
أبو خالد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي ، أمير المؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين عليه سلام الله تعالى ورضوانه ورحماته ..
قائد أوّل جيشٍ غزا القسطنطينية في عام 49 هـ وقد نال بذلك المغفرة من الله تعالى كما في الحديث الصحيح في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أول جيش يغزون القسطنطينية مغفورٌ لهم ) فالتحق بهذا الجيش تحت قيادة يزيد جمعٌ غفير من الصحابة وكبار التابعين على رأسهم الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهو "أوّل من استقبل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته" بعد دخوله المدينة وظلّ مقيماً عنده لأشهر حتى أتمّ بناء المسجد النبوي والحجرات .. وما ان حضرت أبو أيوب الوفاة حتى أوصى أمير الجيش يزيد ان يدفنه في اقرب موضع لأسوار القسطنطينية وهذا يشير إلى ثقة هذا الصحابي الجليل الكبيرة في يزيد رضي الله عنه ومقدرته على تنفيذ وصيّته ففعل ذلك ودفنه في اقرب موضع من العدو بعدما ارسل لملك الروم قسطنطين الرابع رسالة يتوعّده فيها ويهدده ان حاول او سمح بنبش قبره سيفعل به وبقومه أهل ملّته الأفاعيل فرد عليه قسطنطين بوعده له ان يحفظ قبر أبي ايوب كحفظه لعرشه !
تولّى يزيد رضي الله عنه الخلافة في عام 60 هـ بعد وفاة أبيه معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنهما وكان قد عهد له بالخلافة واخذ البيعة له من الصحابة وكبار التابعين من أهل الحل والعقد أعيان العرب وزعماء القبائل أهل الرأي والمشورة في الشام والعراق والحجاز وباقي الأمصار فكانت بيعة يزيد بيعة شاملة كاملة تحققت فيها اكمل الصور الشرعية واكبر شورى في التاريخ إذ كانت من أجلِّ اعمال الامام معاوية عليه السلام عهده بالخلافة لإبنه يزيد والقضاء على الفتنة من أساسها لتقام الحجة على من خالف الجماعة وشق عصا الطاعة بعد ذلك .. واستمرّت خلافة يزيد 3 سنوات واشهر حتى وفاته رحمه الله ورضي عنه في يوم 14 من ربيع الأول سنة 64 هـ وبالرغم من قصر المدّة إلا أنّه حقق انجازات هائلة سأستعرض بعضها بإذن الله بعدما نتعرّف أكثر على بعض الجوانب الهامّة في حياة هذه الشخصية العظيمة !
وُلدَ يزيد بن معاوية في خلافة عثمان بن عفان عليه السلام عام 26 هـ في قرية الماطرون من نواحي الشام في يوم 23 من شهر رمضان المبارك .. فهو يُعد رضي الله عنه من أوائل وكبار التابعين ووالده كاتب الوحي الأمين معاوية عليه السلام حين ولادته كان والي الشام حيث نشأ يزيد في عزِّ الإمارة ومجدها ..
وأمّه المرأة العربية الجليلة ميسون بنت بحدل بن أُنيف الكلبي ابنة زعيم قبيلة كلب العربية العريقة الماجدة من اكبر قبائل الشام القحطانية حينها .. كانت ميسون رضي الله عنها أم يزيد ذات دينٍ وخُلُق واعتنت بتربية ابنها يزيد عناية فائقة ..
تربّى يزيد عند اخواله في بادية بني كلب في الشام تحت كنف الشجاعة والفصاحة والأدب ولهذا بعثه والده لينشأ في البادية كما كانت عادة الملوك والأمراء .. فشبَّ يزيد في أحضان الفطرة وخشونة البادية ورجولتها وفتوَّتها والحياة الصحيّة الصافية النقيّة ، وتعلّم العربيّة الصرفة الفصيحة ..
ولقد أثمرت هذه التربية فيه فكان فصيحاً أديباً لبيباً يُحسن التصرّف في المواقف حاضر البديهة أبيّ النفس عالي الهمّة .. حافظاً لكتاب الله قائماً بالسنن فقيهاً ومحدِّثاً .. وقد قال عنه عبدالله بن عباس « إذا ذهبَ بنو حرب ذهب علماء الناس » وهذا عندما وفدَ إلى الشام ودخل عليه يزيد ليعزيه في وفاة الحسن بن علي ورأى ابن عباس من فقه يزيد وعلمه وادبه وكرمه ما سرّه ..
تزوج يزيد من ابنة عبدالله بن جعفر أمّ محمد بنت عبدلله بن جعفر بن ابي طالب .. وكان عبدالله بن جعفر شديد الحب له حتى أنّه قال ليزيد « فداك أبي وأمي ووالله لا أجمعهما لأحدٍ بعدك » .. وتزوج أيضاً بأم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وتزوج أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وتزوج أيضاً أم كلثوم بنت عبدالله بن عامر بن كريز ، وتزوج أم كلثوم بنت عنبسة بن أبي سفيان ، وتزوج أيضاً من ابنة حريث بن عبد الملك الكندي السكوني .. ونسله المبارك من الأبناء والبنات والأحفاد يطول الكلام فيهم سأفصّل في هذا الباب بتغريدة أخرى ان شاء الله !
بعض أعماله وانجازاته وفتوحاته رضي الله عنه بعد توليه الخلافة :
⁃ نهج في غالب أمره نهج أبيه في سياسة الملك والإدارة واستعان برجاله أنفسهم في تسيير أمور الدولة واجتهد في بناء المساجد وتعمير المدن والطرقات حتى لُقبَ بـ "مهندس بني أمية"
- حدّث في ترتيبات الجيش وضاعف عطاء الجند الملتحقين في الصوائف والشواتي والمرابطين على الثغور واجرى الأرزاق والطعام لأهل المدن التي تقل فيها الموارد الزراعية مثل مكة والمدينة وجعل للأيتام أعطيات كما جمع العطاء للناس كلُّه !
………………………………………….
استكمالاً لإيراد بعض اعمال وفتوحات الامام يزيد عليه السلام أمير المؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين :
- حفر القنوات مثل قناة الغُوطة التي شقها من نهر بردى وسميت بإسمه "نهر يزيد" وهو موجود الى الآن وبسببه استصلحت اراضي زراعية واسعة ورويت وازدهرت بساتين غنّاء ..
- اهتم بالزراعة باعتبارها المصدر الأهم في اقتصاد الدولة ، كما أمر ولاته في مصر والعراق أن يقوموا بتحسين أنظمة الري مما أعطى زيادة كبيرة في الانتاج الزراعي وبالتالي ازداد الخراج في عهده زيادة عظيمة وساعد ذلك في زيادة مصروفات الدولة ..
- أوّل من كسى الكعبة المشرّفة بـ"الديباج الخُسرواني" !
- فرض الخراج على يهود السامرة من اعمال الأردن وفلسطين وجعل على رأس كل امرئ منهم دينارين وفرض على أراضيهم بفلسطين وجعل على رأس كل امرئ منهم خمسة دنانير !
- قام بتطوير الادارة العسكرية وقلل من المركزيّة فزاد عدد الولايات في عهده إلى ولايتين اضافية إذ جعل افريقية ولاية مستقلة عن مصر وعيّن عليها عقبة بن نافع الفهري وأمره بغزو المغرب .. وجعل خراسان وسجستان ولاية منفصلة عن العراق وعيّن عليها سلم بن زياد الثقفي وأمره بفتح وغزو المشرق .. وهذا التحديث في الادارة ساهم بالتوسع الهائل لرقعة الدولة وزيادة الفتوحات بمختلف الجبهات في مدّة وجيزة وقصيرة حتى بلغت حدود الدولة الأموية في عهده من هضبة التبت ومرتفعات جبال الهيملايا في الشرق إلى ما بعد مرتفعات جبال أطلس وبحر الظلمات في الغرب كل هذا في ثلاث سنوات وأشهر فقط .. ماذا لو طال عمر يزيد رضي الله عنه وارضاه ؟؟!!
- وفي الشام استحدث جند قِنّسرين بعد أن كانت تابعة لحمص واضاف إليها انطاكية ومنبج وحلب ودوّنها جنداً ، فأصبحت أجناد الشام خمسة بعد ما كانت أربعة في السابق ، واجناد الشام هي القوة الضاربة التي اعتمد عليها الأمويون في المهمات سواءاً كانت فتحاً في الشمال أو اخماد ثورة تقوم في مكان آخر ، وكانت الشام حينها هي شوكة العرب ومنارة الاسلام !
- جاهد يزيد رضي الله عنه الروم طوال مدَّة خلافته مشدِّداً الخناق عليهم مطبّقاً لوصية أبيه معاوية رضي الله عنه وهو على فراش الموت قبل ان يلفظ انفاسه الطاهرة الأخيرة إذ قال : « شدّوا خناق الروم فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم » ، وكانت أهم الغزوات التي سيّرها يزيد في أرض الروم غزوة مالك بن عبدالله الخثعمي رضي الله عنه صائفة عام 61 هـ وكانت له وقعة بقونية ، غزوة عبدالله بن أسد القسري عام 62 هـ إلى قيسارية ، كذلك غزوة يزيد بن أسد أرض الروم ، غزوة الحصين بن نمير السكوني للصائفة بأرض الروم عام 62 هـ ، هذه الحملات البرية أمّا البحرية فكان يقود الحملات المتتابعة على الجزر والموانئ البيزنطية أمير البحر وقائد الأسطول الأموي جُنادة بن أبي أمية الزهراني ..
• من أهم أبناء واحفاد يزيد بن معاوية رضي الله عنهما :
- خالد بن يزيد وهو أشهر أبناء يزيد وواحد من أعلام الاسلام ونبلاء العرب الأمراء ذوو الفضل والعلم والفكر والجود والفصاحة روى عن أبيه عدّة الحديث وروى عنه كبار الفقهاء في زمانه ، اشتغل بطلب العلم التجريبي كالكيمياء كما عني بترجمة كتب الطب والكيمياء من الأغريق واليونان إلى العربية ومن ولد خالد بن يزيد ، يزيد بن خالد كان من فتيان بني أمية جواداً سمحاً وابنه هاشم بن يزيد بن خالد بايع له أهل دمشق بالخلافة بعد هلاك السفاح وكان القائم بأمر هاشم في دمشق قاضيها عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي ، ومن ولد خالد حرب بن خالد كان من فتيان قريش سيادة وجوداً وجاهاً ، وحفيد خالد علي بن عبدالله بن خالد بن يزيد قاد ثورة بدمشق ، وقاتل العباسيين سنة 195 هـ في عدة مواقع وكان عمره وقتها 90 عاماً !
- عبدالله بن يزيد يقال له الأسوار ، وكان من أفضل أهل زمانه واعبدهم ، بنته السيدة عبدة بنت عبدالله بن يزيد تزوجها يزيد بن عبد الملك وخلفه عليها هشام بن عبد الملك وهي التي قتلها المجرم اللعين عبدالله بن علي العباسي بحمص ، ومن ابنائه زياد بن عبدالله بن يزيد الذي بيّض ومعه أهل حمص وقنسرين فقاتل جيوش العباسيين أيام السفاح وهزموا عبد الصمد بن علي العباسي ثم هرب زياد بن عبدالله إلى الحجاز بعد مدّة وبها قاتله أميرها زياد الحارثي أيام المنصور فقُتل في احدى المعارك وكان قد استولى على الشام ثلاث سنوات وناصره في ثورته بنو كلب والأزد وقيس ..
- عبدالعزيز بن يزيد بن معاوية كان أرمى العرب في زمانه من المجاهدين على الثغور ..
- السيدة عاتكة بنت يزيد كانت فاضلة كريمة سيدة نساء العرب في زمانها وكانت من رواة الحديث في الشام ، قال عنها الأصمعي هي أعرق الناس بالخلافة جدها معاوية خليفة وأبوها يزيد خليفة … ، وابو زوجها مروان خليفة وزوجها عبد الملك خليفة وابنها يزيد خليفة وحفيدها الوليد خليفة وابناء زوجها عبدالملك : الوليد وسليمان وهشام خلفاء فهؤلاء كلهم لها محرم !
………………………………
بعض الفتوحات في عهد امير المؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين يزيد بن معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنهم اجمعين في جبهتي المشرق والمغرب ..
- أولاً : جبهة المشرق : ولّى امير المؤمنين يزيد بن معاوية سَلمَ بن زياد بن عبيد الثقفي على خُراسان وسجستان وعمره 24 عاماً ، وكان سلم ذا همّة عالية جواداً سخياً محبوباً مباركاً يُكنّى أبا حرب ، وبعث معه يزيد وجوه أهل العراق واشراف العرب وجعل لسلم اختيار القادة والفرسان ..
فتوجّه معه بُريدة بن الحصيب الأسلمي وطلحة الطلحات الخزاعي والمهلب بن ابي صفرة الأزدي وعمر بن عبيد الله التيمي وعبدالله بن خازم السلمي ويزيد بن زياد الثقفي والحارث بن معاوية الحارثي وحنظلة بن عرادة وعمران البرجمي والوليد بن نهيك الحنظلي ويحيى بن يعمر العدواني وابو الصهباء العدوي ، وغيرهم جمعٌ كبير من الصحابة وكبار التابعين رضي الله عنهم اجمعين ..
وخرجت أيضاً مع سلم بن زياد زوجته أم محمد بنت عبدالله بن عثمان بن ابي العاص الثقفي ، وهي أول امرأة من العرب قُطع بها النهر وكانت احدى عقائل ثقيف .. وجدّها الصحابي الكبير امير الطائف عثمان بن ابي العاص الثقفي رضي الله عنه ولّاه نبينا صلى الله عليه وسلّم الطائف وظل والياً عليها حتى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ولّاه ولاية عمان والبحرين في عام 15 هـ وكتب له يستخلف على الطائف من شاء فاستخلف أخاه الحكم بن ابي العاص عليها ..
وجّه سلم بن زياد قبله الحارث بن معاوية الحارثي إلى خراسان ووجّه أخاه يزيد بن زياد إلى سجستان فعبر سلم إلى خراسان وكانت بلاداً واسعة من أشهر اقاليمها : سرخس - مرو الروذ - مرو الشاهجان - الفارياب - الطالقان - الجوجزان - نيسابور - هراة - طوس - بلخ .. وكانت نيسابور في ذلك الوقت هي قاعدة خراسان وامارة المشرق ، وسجستان أيضاً ذات اقاليم واسعة من اشهرها : زرنج - قندهار - كابل - طخرستان .. وكان عمّال سلم بن زياد على خراسان وسجستان يغزون مختلف الاقاليم والبلدان فإذا دخل الشتاء قفلوا من مغازيهم حيث كانت طبيعة أراضي تلك البلاد وعرة لكثرة جبالها الشاهقة وشدّة برودتها مع كثافة سقوط الثلوج .. فقام سلم بن زياد بالغزو في الصائفة وشتا في بعض غزواته !
قام سلم بن زياد الثقفي بتجهيز حملة عسكرية كبيرة أمّر عليها قائده المهلب بن ابي صفرة الأزدي لغزو اقليم خوارزم وهي ولاية كبرى تقع غرب نهر جيحون وجنوب بحر الآرال قاعدتها مدينة "خيوة" ومن مدنها "الجرجانية" ، فشتا فيها المهلب وفتحها ..
ثم سار الوالي سلم بن زياد إلى بخارى قاطعاً النهر ومعه زوجته أم محمد فحاصر بخارى وكانت ملكتها "خاتون" فلمّا رأت جمع جيوش العرب هالها ما رأته فكتبت إلى ملك السُّغد "طرخون" تعده بالزواج منها وتسليم بخارى له حيث طلبته النجدة للدفاع عن مُلكه ، فأقبل إليها بجيشٍ يبلغ 120 الف مقاتل "كما ذكر المؤرخون" فلمّا علم سلم بقدوم طرخون بجيشه عاجله بتوجيه المهلب بن ابي صفرة للقاء طرخون وهو في طريق القدوم إلى بخارى فانتصر عليه جيش العرب المسلمين انتصاراً ساحقاً وابادو جيش السُّغد وقُتل ملكهم طرخون وكسب جيش المهلّب مالاً كثيراً من الغنائم حتى بلغت أسهمهم يومئذٍ للفارس 2400 درهم وللراجل 1200 درهم !
فلمّا رأت ملكة بخارى سحق طرخون وجيشه عرضت على سلم بن زياد التسليم والصلح على فدية كبيرة فرضي وفُتحت سِلماً ، وسار سلم من بخارى إلى "سمرقند" وهي عاصمة السُّغد ففتحها صلحاً أيضاً على فدية ، كما جهّز سلم بن زياد جيشاً كبيراً عبَر الجبال الوعرة إلى التبت وبلاد الترك الشرقية "تركستان الصينية" وافتتح عدّة مدن من بينها "يارقند" و "الختن" التي فتحت عنوة وتقعان هاتان المدينتان شمال شرق "الهيمالايا" ..
ولم يزل سلم بن زياد بن عبيد الثقفي رضي الله عنه وارضاه والياً للمشرق فاتحاً لتلك البلدان الشاسعة والاقاليم الواسعة الكبيرة متحدّياً لطبيعة الأراضي الجغرافية الوعرة والظروف المناخية الصعبة طوال عهد أمير المؤمنين يزيد بن معاوية رضي الله عنهما حتى وفاته في سنة 64 هـ - مما أثّر على الفتوحات في المشرق بسبب الاضطرابات التي وقعت في الدولة والاحداث التي اعقبت وفاة خامس الخلفاء الراشدين يزيد امير المؤمنين رحمه الله ورضي عنه مما اضطرّ والي المشرق سلم بن زياد ايقاف سلسلة الفتوحات والعودة بجيوشه إلى خراسان وسجستان .. وفي نهاية الأمر نتيجة لغياب الدولة الموحّدة وكثرة الحروب الأهلية والنزاعات عاد إلى العراق وعاش باقي حياته في البصرة حتى توفي بها سنة 73 هـ رحمه الله ورضي عنه .. مما نقله الطبري في كتابه عن سيرته « لم يحب أهل خراسان أميراً قط حُبّهم سلم بن زياد ، فسُمّي في تلك السنين التي كان بها سلم ، أكثر من عشرين ألف مولود بسلم من حُبِّهم سلماً » !!
……………………………
ثانياً : جبهة المغرب : ولّى امير المؤمنين يزيد بن معاوية رضي الله عنهما عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه ، وكان قد عزله معاوية رضي الله عنه فلمّا خلفه يزيد ردّه إليها قائلاً له « الحقها قبل أن تخرب » ..!!
فاتح المغرب عقبة بن نافع بن عبد القيس القرشي الفهري رضي الله عنه ابن أخت الفاتح الكبير القائد العظيم عمرو بن العاص السهمي رضي الله عنه وارضاه حيث كان عقبة بن نافع مع خاله عمرو بن العاص تحت رايته في فتح مصر في عهد امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان عقبة من الولاة الفاتحين بعد ذلك في عهد عمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم اجمعين وقد غزا النوبة وغزا الروم من البحر بأهل مصر وشتا مرات عدّة حتى تولّى ولاية افريقية في عهد امير المؤمنين معاوية رضي الله عنه واختط فيها مدينة القيروان عام 50 هـ وبنى مسجدها الشهير "جامع عقبة بن نافع" .. كان عقبة مستجاب الدعوة خيّراً فاضلاً صالحاً تقيّاً ورِعاً رضي الله عنه أُختلفَ في صحبته .. يروي خليفة بن خياط في تاريخه بسنده من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : « لمّا افتتح عقبة بن نافع افريقية وقف على القيروان فقال : يا أهل الوادي إنّا حالّون ان شاء الله فاظعنوا ثلاث مرات .. قال : فما رأينا حجراً ولا شجراً إلّا يخرج من تحتها دابّة ، حتى يهبطن بطن الوادي ، ثم قال انزلوا بسم الله » !!
لحق عقبة بن نافع بولاية افريقية بعدما وجّهه امير المؤمنين يزيد بن معاوية إليها على رأس جيشٍ يبلغ 10 آلاف مقاتل فجدد بناء القيروان شيّدها ونقل إليها الناس من جديد فعمرت وعظم شأنها ، فلمّا تجهّز غازياً منها خلف عليها زهير بن قيس البلوي وعمر بن علي القرشي وحامية عسكرية تكفي لصدِّ هجمات الروم "ان حدثت" ..
يروي صاحب كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب المؤرخ شهاب الدين النويري المتوفى سنة 733 هـ في كتابه هذا عن خروج عقبة بن نافع من القيروان نحو المغرب مجاهداً أنّه دعا أولاده قبل أن يخرج قائلاً لهم « إنّي بعتُ نفسي من الله تعالى بيعاً مُربحاً أن اجاهد من كفر حتى ألحق بالله .. ولستُ أدري أتروني بعدها أو أراكم لأن أملي الموت في سبيل الله » ثم قال لهم : « عليكم سلام الله ، اللهم تقبّل نفسي في رضاك » انتهى !
ومضى في عسكرٍ عظيم حتى أشرف على مدينة "باغاية" وقاتل أهلها قتالاً شديداً ففتحها عنوة وغنم منهم خيلاً لم يرى العرب في مغازيهم هناك أشدّ واصلب منها ، وسار بعدها إلى "لميش" وهي من اعظم مدن الروم فلجأ إليها من كان حولها منهم ، وخرجوا إليه فقاتلوه قتالاً شديداً فهزمهم وتبعهم إلى حصنهم واصاب غنائم كثيرة ، فرحل منها إلى اقليم بلاد الزاب من المغرب الأوسط "الجزائر حالياً" فسأل عن أعظم مدائنهم قدراً فقالوا : عاصمتها مدينة "أربة" فيها الملك ، وهي مجمع ملوك الروم وحولها 360 قرية عامرة !!
فلمّا بلغ اهل "أربة" نبأ قدوم عقبة إليهم بجيشه لجأوا إلى حصنهم وهرب بعضهم إلى الجبال الوعرة .. فنزل عقبة عليها وقت المساء فلمّا أصبح أمر بالقتال فكانت بينهم حروب شديدة ، حتى ظفر بهم عقبة ونصره الله وقُتل اكثر فرسان الروم وذهب عزهم من الزاب وذُلوا آخر الدهر .. فما قام به العرب بقيادة عقبة بن نافع تحرير البربر من احتلال واذلال الروم لهم لعدّة قرون لكن البربر للأسف استمرأوا العبودية والتبعيّة للروم !!!
رحل عقبة من اقليم الزاب حتى نزل "تاهرت" في شمال المغرب الأوسط فلمّا بلغ الروم خبره استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم ، فقام عقبة وخطب بالناس وحرّضهم على القتال والتقوا واقتتلوا فلم يكن للروم والبربر طاقة بقتال العرب .. فقتل فيهم عقبة وجيشه قتلاً ذريعاً وفرق جموع الروم واتباعهم البربر عن المدينة .. ثم رحل عقبة منها حتى نزل "طنجة" أقصى شمال بلاد المغرب الأقصى فلقيه هناك رجل من الروم يقال له "ايليان" وكان شريفاً في قومه ، فأهدى إلى عقبة هدية حسنة ولاطفه ونزل على حكمه ..
يروري ابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ في كتابه الكامل في التاريخ أن عقبة سأل ايليان عن بحر الأندلس ، فقال : إنه محفوظ لا يُرام ، فقال له : دُلني على رجال البربر والروم ، فقال ايليان : قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلّا البربر في عدد لا يعلمه إلّا الله تعالى وهم انجاد البربر وفرسانهم فقال عقبة : أين موضعهم ؟ فقال له : في السوس الأدنى وهم قومٌ ليس لهم دين يأكلون الميتة ويشربون الدم من أنعامهم كالبهائم يكفرون بالله ولا يعرفونه ، فقال عقبة لأصحابه : ارحلوا على بركة الله ..
رحل عقبة إلى اقليم السوس الأدنى بدأ من جنوب طنجة فانتهى عقبة إلى من لقيه من أوائل البربر فقتلهم قتلاً ذريعاً ، وهرب من بقي منهم وتفرّقت خيله في طلبهم ، ومضى حتى دخل السوس الأقصى فاجتمع البربر في عدد كثير فقاتلهم قتالاً شديداً فقتل خلقاً كثيراً وسبى منهم نساءً لم يرى الناس مثلهن !!
……………………..
استكمالاً للفتوحات في عهد امير المؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين يزيد بن معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنهم اجمعين في جبهة المغرب وفتوحات عقبة بن نافع رضي الله عنه ..
سار عقبة بن نافع حتى بلغ بحر الظلمات "المحيط الأطلسي" لا يدافعه أحد ولا يقوم له ، ويروي المؤرخ ابن عبد الحكم المتوفى سنة 257 هـ في كتابه فتوح مصر والمغرب أن عقبة بن نافع لمّا وصل إلى البحر المحيط « أقحم فرسه فيه حتى بلغ الماء نحره ، ثم قال : اللهم إني أشهدك أن لا مجاز ولو وجدتُ مجازاً لجزت » ثم قال لأصحابه « انصرفوا على بركة الله وعونه » فخلا الناس عن طريق عساكره هاربين وخاف المشركون منه أشدّ مخافة ..
وعاد قافلاً إلى افريقية فلمّا انتهى إلى موضع يقال له اليوم "ماء فرس" ولم يكن به ماء ، يروري ابن الأثير (ت:630هـ) في كتابه الكامل في التاريخ (3/206) فأصاب جيش عقبة عطش شديد أشفى منه عقبة ومن معه على الموت فصلّى عقبة ركعتين ودعا الله عز وجل فجعل فرسه يبحث في الأرض بيديه فكشف عن صفاة ، فانفجر الماء فنادى عقبة في الناس فحفروا أحساء كثيرة وشربوا ، فسمي هذا المكان بماء فرس !!!
ثم سار عقبة حتى انتهى إلى مدينة "طُبنة" بينها وبين القيروان قرابة ثمانية ايام ، فأمر اصحابه أن يتقدّموه فوجاً بعد فوج ثقة منه بما فتح ودوّخ من البلاد ولم يتبقى من أعدائه ما يخشاه وسار يريد "تهودة" لينظر إليها والى "بادس" ويعرف ما يسدهما من الفرسان فيترك فيهما بقدر الحاجة فلمّا نظر الروم إلى قلّة ما معه طمعوا فيه واغلقوا أبواب حصونهم دونه ورموه بالنبل والحجارة فلمّا توسط البلاد في الطريق بين تهودة وبادس بعث الروم إلى "كسيلة بن بهرم البربري" وكان في عسكر عقبة .. وكسيلة هذا من زعماء البربر كان قد اسلم في ولاية أبي المهاجر الوالي الذي كان قبل عقبة فعرّف ابو المهاجر لعقبة بحال كسيلة وعظمه في البربر وانقيادهم إليه ، فلم يعبأ به عقبة واستخف به !!
عندما رأى كسيلة الروم قد راسلوه ورأى الفرصة سانحة أمامه ارتد ووثب وقام في بني عمه واهله البربر ومن اجتمع معه من الروم ، فقال أبو المهاجر لعقبة حينها « عاجله قبل أن يجتمع أمره » فزحف عقبة إلى كسيلة فتنحى وهرب عنه كسيلة فقال قومه البربر له : « لمَ تنحيت من بين يديه ونحن في خمسين ألفاً وهو في خمسة آلاف » "رواها شهاب الدين النويري (ت:721هـ) كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب" فقال : « إنّكم كل يومٍ في زيادة وهو في نقصان ومدد الرجل قد افترق عنه فإذا طلب افريقية زحفت إليه » ، فصلّى عقبة ركعتين وكسر غمد سيفه وفعل ابو المهاجر كفعله وكسر المسلمون أغماد سيوفهم ، وامر عقبة ان ينزلوا عن خيلهم ، ففعلوا وقاتلوا قتالاً شديداً وكثر عليهم العدو فقُتلوا شهداء بإذن الله عن آخرهم رضي الله عنهم وارضاهم وذلك في سنة 63 هـ في بلدة "تهودة" بالقرب من "بسكرة" وسُمّيت هذه المنطقة اليوم "سيدي عقبة" نسبة إلى الضريح المنسوب لعقبة بن نافع رضي الله عنه وفيها جامعٌ بإسمه أيضاً .. وهو المسجد الذي ذكره ابن خلدون وقال فيه : « إنه أشرف مزار في بقاع الأرض لما توفر فيه من عدد الشهداء والصحابة والتابعين » !!
وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد طويل دام أكثر من 44 عاماً قضاها في فتوح بلاد النوبة والشمال الافريقي ابتداء بمصر وانتهاء بالمغرب الأقصى اضافة إلى معاركه البحرية التي قادها ضد اساطيل بيزنطة .. إلّا أن استشهاده كان له آثار سيئة على الفتوحات في جبهة المغرب اضافة لوفاة خليفة المسلمين أمير المؤمنين يزيد بن معاوية رضي الله عنهما … ، وضاعت القيروان من أيدي العرب المسلمين لمدة خمس سنوات !!
قام كسيلة البربري الخائن بعدما غدر بعقبة رضي الله عنه واصحابه بالانطلاق فوراً إلى القيروان فاستولى عليها فعادت جيوش الفتح العربية إلى برقة .. حتى جاء عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان رضي الله عنهما فوجّه زهير بن قيس البلوي من برقة لاستعادة القيروان بحملة عسكرية واجه فيها كسيلة بموضعٍ يقال له "ممّس" سميت المعركة باسمه فدارت رحى معركة ممّس الكبيرة التي انتهت بالنصر المبين للعرب المسلمين وذلك في عام 69 هـ وقُتل فيها كسيلة زعيم البربر شرّ قتلة وهرب جيشه البربري ولاحقه الجيش الأموي متتبعاً فلولهم حتى بلغ جيش كسيلة الهارب نهر ملوية عابرين النهر مولّين الأدبار إلى المغرب الأقصى ..
قال ابن عبد الحكم المتوفى سنة 257 هـ في كتابه فتوح مصر والمغرب : حدَّثنا عبد الملك بن مسلمة حدَّثنا الليث بن سعد ، إن عقبة بن نافع قدِمَ من عند يزيد بن معاوية في جيشٍ على غزو المغرب فمرَّ على عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو بمصر فقال له عبد الله بن عمرو : « يا عقبة لعلّك من الجيش الذين يدخلون الجنة برحالهم » فمضى بجيشه حتى قاتل البربر وهم كفار فقُتلوا جميعاً .. غفر الله لعقبة ولجيشه ورضي عنهم وارضاهم !
الأستاذ : وليد الزهراني
إرسال تعليق