و أزواجه أمهاتهم : بين حقيقة التنزيل و زيف التأويل
يدّعي البعض أن المقصود من قوله تعالى: "وأزواجه أمهاتهم" هو مجرد تحريم نكاحهن بعده، وهذا تحريف لمعنى الآية بتعضيتها وتأويلها بعيدًا عن سياقها، فيه اعتداء على مقام أمهات المؤمنين الرفيع، وسعيٌ لسلبهن المكانة العظيمة التي خصّهن الله بها. إن الأمومة الدينية التي جعلها الله لأزواج النبي على المؤمنين هي امتداد لولايته العامة عليهم، وهي ولاية تقتضي الأولوية والعصمة؛ فكما أن النبي أولى من نفس المؤمن، لأنه لا يختار للمؤمنين إلا ما هو خير لهم من أنفسهم، كذلك أزواجه المصطفَيات له، جعلهن الله في مقام "أمهات المؤمنين"، وهو مقام رفيع يقتضي أنهن أولى بالتقديم على كل مؤمن لما بلغنه من فضل، ولِما شرفهن الله به من الطهارة والعصمة. "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" مقامٌ فوق كل مقام، أعلى من الأبوة والأمومة والأخوة والنسب، بل وفوق النفس ذاتها. "وأزواجه أمهاتهم" أمومة دينية عامة، تفوق الروابط الطينية من أبوة وأمومة وأخوة ونفس، توجب لهن المحبة والتوقير والنصرة والدفاع، والاقتداء والموالاة في كل شأن. فكما أن النبي أولى، كذلك أزواجه أمهات، ولذلك كان المؤمنون إخوة. نبيُّ الله أبٌ لهم دينيًّا لا طينيًّا، وأزواجه أمهاتهم دينيًّا لا طينيًّا، وهم إخوةٌ بعضهم لبعض دينيًّا لا طينيًّا. "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم" "إنما المؤمنون إخوة" إن أمومة أزواج النبي للمؤمنين تعني أنهن في الذروة العليا من الإيمان والتقوى، وهن أرفع المؤمنين درجة، وأعلاهم فضلًا. فأمُّ المؤمنين هي: أمُّ العارفين بالله، أمُّ الموحّدين، أمُّ المصدّقين برسالة الله، أمُّ الوارثين للكتاب والحكمة، أمُّ الفاهمين لشرع الله، أمُّ المتقين من عذاب الله... هي أفضلُ المؤمنين، وأكملُهم إيمانًا، وأحسنُهم عملًا؛ كأمثال: أمّ الأحرار، وأمّ الصادقين، وأمّ المصلحين، ونحوها من التعبيرات التي تدل على علوّ المقام في ذلك الشأن. ولأنهن نهلن الوحي والحكمة من بيت النبوة، وتربَّين، وتأدَّبن، وتعلَّمن على يد زوجهن وحبيبهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهن أمهات المؤمنين في الفضل، وأمهاتهم دينيًّا وروحيًّا. وهي أمومة لم ينلنها لمجرد أنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، بل نلنها بالعمل والتقوى؛ فقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وحياة التقشّف والزهد على حياة المتعة والنعيم، وتحمّلن مع نبي الله أعباء الدعوة وتبليغ الرسالة، وكنّ له نعم العون وخيرَ صاحب. اختبرهن الله، وفرض عليهن فروضًا، فأدَّينها بأحسن ما يكون، فطهَّرهن الله، وشرَّفهن، وبوَّأهن مقام أمومة المؤمنين، وهي أمومة دينية عامة على المؤمنين رجالًا ونساء، مرتبطة بولاية النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين والمؤمنات. وهذه الأمومة تقتضي لهن حقَّ المحبة الدينية، والتوقير، والتقديم، والدفاع، والذبّ عنهن، وامتثال نهجهن، واتباع سيرتهن. وليس ذلك تفضلًا من المؤمن، بل واجبٌ عقدي ديني، ومن أنكر هذا المقام فقد خرج عن دائرة "المؤمنين" الذين هنّ أمهاتهم. وقد قيل لأمِّنا السيدة عائشة رضي الله عنها: إن فلانًا يقول إنك لستِ له بأم، فقالت: "صدق، أنا أم المؤمنين، ولستُ بأم المنافقين"، وفي رواية: "ولستُ بأم الكافرين". فالطعن في أمهات المؤمنين طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كفرٌ بواح. أما آية تحريم النكاح فقد جاءت بعد آية الأمومة في نفس السورة، قال تعالى: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا". وفيها تحريم أذية النبي في أزواجه، وتحريم نكاحهن من بعده، صيانةً لجنابه، وإكرامًا لمقامه، وحفظًا لحرمته، فهن زوجاته في الدنيا والآخرة. وفي قوله: "أزواجه من بعده" دلالة على تأبيد الزوجية، وأنهن زوجاته في حياته، وبعد وفاته، ويوم القيامة، منزلتهن منزلة رسول الله، لا يُفرَّق بينه وبينهن أحد. إن مقام أمهات المؤمنين مقامٌ رفيع، ومكانةٌ خاصة، لم يبلغها أحدٌ سواهن؛ فهن أفضلُ الأمة، بل أفضل الخلق بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم. هذا هو مقام أمومة المؤمنين: مقام فضلٍ، وعصمةٍ، وإكرامٍ، ومحبةٍ، وتقديمٍ، واحترامٍ، وولاءٍ، ودفاعٍ، ونصرةٍ. وليس كما يزعم أصحاب الأهواء الذين يحاولون تحريف دلالة الآية، وصرفها عن معناها الحق، وحصرها في مجرد تحريم النكاح، والانتقاص من أمهات المؤمنين، وإنزالهن من مقامهن العالي الرفيع، واعتبارهن مجرد زوجات وأسماء عابرة في حياة النبي، يجوز التجرؤ عليهن، ومخاصمتهن، والتقوّل عليهن، وتقديم خصومهن عليهن، ومناصرتهم ضدّهن، لأغراض الانتصار لادعاءاتٍ سلاليةٍ رخيصة.الأستاذ : عبدالكريم عمران
إرسال تعليق