ويح عمار تقتله الفئة الباغية .. بين المعنى والمبنى

الكاتب: مركز الفكر الرابع للدراسات والبحوث العلميةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق



ويح عمار تقتله الفئة الباغية .. بين المعنى والمبنى


تنويه: هذا تأمل لغوي ومنطقي في دلالة حديث: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، بعيدًا عن مباحث السند، وروايات التفضيل، والاصطفافات الطائفية أو السياسية. المقصود هنا الوقوف على المعنى ومدى انسجامه مع منطق اللغة وسياق الحال، لا إصدار حكم نهائي في الثبوت أو العدالة. --- "ويح عمار تقتله الفئة الباغية".. بين المعنى والمبنى حتى لو سلمنا بصحة هذه الرواية – مع أن هناك تحقيقات حديثة تثبت إدراجها في بعض نسخ صحيح البخاري – فإن ظاهر معناها يثير إشكالات بيّنة من جهة اللغة والمنطق والسياق. فأول ما يلفت النظر هو لفظ "ويح"، وهو في اللسان العربي يدل على التحسر أو التوبيخ أو الزجر، ويقارب "ويل"، ولا يستعمل في مواضع التبشير والرضا. فكيف يقال "ويح عمار" إن كان مقتله شهادة ورفعة وميزانًا للحق؟! لو كان مقتله فضيلة لما استعمل هذا اللفظ، بل قيل: "فاز عمار" أو "طوبى لعمار"، لا "ويح" التي تدل على ألم أو ندم أو إنذار. فكيف يتحسر على رجل يُقتل وهو في صف الحق؟! بل كيف يقال "ويح له" وهو – بحسب ظاهر الرواية – ميزان يفرق الله به بين الحق والباطل؟ إذا كان في صف الحق، فالذي يُرثى له هم قاتلوه لا هو. وهنا يبرز احتمال أكثر اتساقًا مع منطق اللغة: أن يكون قول النبي ﷺ "ويح عمار" تحسرًا على انزلاقه في صف باغٍ كان سبب هلاكه، وأن "تقتله الفئة الباغية" تعني أنه قُتل بانحيازه لها، أو وقوعه معها، ولو باجتهاد أو التباس. فيكون مقتله نتيجة اصطفاف خاطئ، لا وسام شرف. وبهذا يُفهم الحديث – إن صح – لا باعتباره بشارة، بل تحذيرًا من مآل مؤلم، لا سيما إذا كان موقفه في أواخر حياته ملتبسًا، أو تحول دوره من الدعوة إلى الوقوع في صراع داخلي. --- "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار": تكفير ضمني؟ الإشكال لا يقف عند "ويح" وحدها، بل يتضاعف مع الشطر الثاني من الرواية: "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". فإن قيل إن "الفئة الباغية" هم خصومه في صفين، فهذه العبارة تحكم عليهم بأنهم دعاة إلى النار، وهي صيغة تكفير صريح لا تليق بنزاع اجتهادي بين مؤمنين، في شأن سياسي دنيوي. وقد نص القرآن الكريم على أن الفئتين في الاقتتال الداخلي هما: "طائفتان من المؤمنين..." فإذا كانوا جميعًا مؤمنين، فكيف يُجعل بعضهم دعاة إلى النار؟! ألا يدل ذلك على أن هذا الجزء من الحديث قد ينتمي إلى سياق مختلف، ربما يعود إلى أيام دعوة عمار للمشركين في مكة، لا إلى قتاله في صفين؟ فهل حصل دمج بين حديثين مختلفين ونُسبا إلى موضع واحد؟ أم أن الرواية برمتها ركّبت لاحقًا لإدانة فئة والانتصار لأخرى تحت غطاء النبوءة؟! وفي كلا الجزأين، فإن إشكال "ويح" يظل قائمًا، فهو لا يستقيم مع كونه على الحق ولا مع كونه يدعوهم إلى الجنة. الوقائع تنقض الرواية يزداد الإشكال حدة حين ننظر إلى ما آلت إليه الأمور بعد صفين: فالفئة التي كان فيها عمار – أي فئة علي – هي التي فائت إلى أمر الله وقبلت التحكيم. أما الطرف الآخر – الذي سمته شروح الرواية "باغيًا" – فإنه لم يتنازل عن شيء بعد الصلح، وظلت الغلبة في يده، حتى اضطرت فئة علي للاستسلام التام حين اضطر الحسن بن علي لاحقًا إلى الاستسلام لمعاوية فيما عُرف بـ عام الجماعة. فهل يُعقل أن توصف الفئة التي فيها قتلة عثمان والتي فاءت أخيرًا وتنازلت وحكمت في صفين بأنها على الحق، بينما تُتهم الفئة التي ثبتت على الحق والمطالبة بالعدالة والانتصاف من القتلة حتى تغلبت وانتصرت بأنها الباغية؟! أليس هذا خللًا جوهريًا في فهم من كان على الحق ومن كان على البغي؟ وهل يستقيم مع العدل النبوي أن يُجعل قتلة عمار دعاة إلى النار، في حين أن فريقهم هو فريق أم المؤمنين وأغلب الصحابة ومن آلت إليه الامور لاحقًا؟! 📌 خلاصة التأمل: إما أن الحديث موضوع أو محرف أو تم توليفه وادراج عبارات غريبة عن سياقه. أو أن معناه الحقيقي حرف سياسيًا، فقدم على أنه مدح وهو أقرب إلى الإنذار والتحذير، وحملت ألفاظه بما لا تحتمل بغرض تبرير اصطفاف معين وإدانة خصومه. 🧭 دلالة تتجاوز اللفظ لقد استخدم هذا الحديث طويلًا في ترسيخ سردية جاهزة عن ميزان الحق والباطل، وتوظيفه في خدمة اصطفاف سياسي معين، حتى صار قتل عمار بن ياسر يُقدم وكأنه "وثيقة إدانة" أبدية لفئة، و"وسام براءة" لفئة أخرى، دون تمحيص في السياق أو اللفظ أو الملابسات. وبذلك تحول النص إلى أداة تمييز سياسي/طائفي جاهزة، تعلق عليها لافتة "الحق" و"البغي" بمنطق لا يقيم وزنًا لاجتهاد، ولا لملابسات القتال، ولا لانقسام الصحابة أنفسهم. في كل الأحوال، تبقى إعادة قراءة هذه النصوص بلغة الحق ومنطق العقل والعدل وفي سياق الأحداث ضرورة لتحرير الوعي من أسر التأويلات المتوارثة، وفهم النصوص في إطارها الأخلاقي والتاريخي، لا في أطر الاصطفافات الطائفية..


الأستاذ الشيخ : عبدالكريم عمران



قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

5530503018128628799

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث