لا تحرفوا كلام الله ” تلك أمة قد خلت ” ليست آداة لقمع الحقيقة
في كلِّ مرَّة نطرح فيها حقائق تاريخية تنسف الروايات العباسية والأكاذيب الشعوبية الممنهجة ينبري بعض المغيَّبين ليرفعوا في وجوهنا آية :
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ، وكأنها ترخيصٌ قرآني لدفن التاريخ ، وكأن الله أمرنا بغلق باب النظر والنقد والتحقيق ، وهذا تدليسٌ صريح وسوء فهم عظيم لمراد الله تعالى !! أولاً : حقيقة الآية وسياقها القرآني .. آية "تلك أُمَّةٌ قد خلت" وردت في سياق الحديث عن بني إسرائيل والأُمم الغابرة ، لا عن أُمَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم الباقية حتَّى قيام الساعة ، ولا علاقة لها بتاريخنا أو السرد السياسي العربي الإسلامي .. جاءت هذه الآية الكريمة في موضعين من نفس السورة "سورة البقرة" قال الله تعالى : ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة : 133] ثمَّ في الآية 134 بعدها مباشرة ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ .. وفي الموضع الآخر جاءت بعد قوله تعالى ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة : 140] ثمَّ في الآية 141 بعدها مباشرة : ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ .. الخطاب هنا موجَّه لليهود والنصارى الذين زعموا الانتساب للأنبياء زيفاً ، فجاء الرد الإلهي : تلك أُمَّةٌ قد خلت ... ، أي أنتم لا ترثونهم ادعاءً ، بل يحاسبون بأعمالهم ، وأنتم بأعمالكم .. ثانياً : إسكات التصحيح التاريخي بهذه الآية تحريف مقصود .. حين ننفي الأكاذيب المتوارثة عن تاريخنا المشوَّه وثقافتنا المخترقة أو نفضح وضع الشعوبيين لروايات تُعلي من شأن أعداء العرب وتُسقط رموز الدولة العربية الأولى ، يقف البعض صارخاً "تلك أمَّةٌ قد خلت" ، وكأنَّه يريد منَّا أن نُسلِّم بالكذب ، ونتنازل عن مسؤولية التحقيق العلمي ، ونصمت عن آلاف الروايات المدسوسة التي شوهت تاريخ الإسلام والعرب تحت مظلَّة تلك الآية ، وهذا تزييف بيِّن ، بل هو نفسه ما نهى الله عنه بقوله تعالى : ﴿ … وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ… ﴾ ثالثاً : الشعوبية وحرف سياقات النصوص .. الشعوبيون ، ومن تبعهم من المدافعين عن التأويل السلالي لم يكتفوا بتحريف التاريخ ، بل تجاوزوا ذلك إلى تحريف التأويل القرآني نفسه ، ومن الأمثلة الصارخة آية التطهير في سورة الأحزاب "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" ، وهذه الآية جاءت في سياق خطابي كامل عن نساء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وبدأت بقوله تعالى في الآية 32 من سورة الأحزاب : ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴾ ثم في الآية التالية 33 ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ ، فجاء "التطهير" في ختام الآية كما أن الخطاب موجَّه في جميع الآيات السابقة واللاحقة لها ، ولنساء النبي حصراً ، ومع هذا انتزعوها انتزاعاً من سياقها ليلصقوها بأقرباء النبي من جهة الأب لا من جهة البيت ليُخرجوا أُمَّهات المؤمنين عليهنّ السلام من وصف "أهل البيت" لخدمة الأجندات الشعوبية والأهداف السلالية المسيسة .. إذاً فتأويل الآيات وفق الهوى الشعوبي سواءً بعسف الأدلَّة أو بليَّ أعناق النصوص ، هو جريمة فكرية يجب كشفها وفضحها ، فنحن لا نكتب لنسبَّ ، ولا لنقدِّس ، بل لنحقِّق ، ونفضح الكذب المتعمَّد في سجلنا التاريخي ووعينا الثقافي ، ومن يريد إغلاق هذا الباب بدعوى الآية فهو شريك في طمس الحقيقة سواء علم ذلك أو جهل ، فالحقيقة لا تُلغى بتأويل مدسوس ، والتاريخ لا يُدفن بآية أُخرجت من سياقها !!
الأستاذ الباحث : وليد الزهراني
إرسال تعليق