التعصّب للمشايخ والوعّاظ وتقديس اقوالهم
يعتمد الكثير من الناس على أقوال وفتاوى وآراء المشايخ والوعاظ والخطباء ولهم مكانه كبيرة في قلوب الكثير من المقلدين والأتباع.. غير أنّ مكانتهم هذه تحوّلها بعض المجتمعات وللأسف من موقعها الطبيعي—الذي يقوم على التقدير والنقد البنّاء—إلى منظومة تقديسية تجعل كلام هؤلاء المشايخ والوعاظ فوق النقد، ورأيهم فوق النقاش، ويضعونهم في مقام "المرجع المطلق" الذي لا يُرد كلامه مهما ظهر من أدلّة مخالِفة أو حقائق بحثية جديدة.
هنا ينشأ التعصّب: إذ يتحوّل هذا الشيخ من باحثٍ عن الحقيقة إلى رمزٍ مقدّس لا يُسأل ولا يُناقش. وتتحوّل آراؤه من اجتهادٍ بشري إلى نصٍّ مُلزِم لا يقبل التعديل.
المنظومة الكهنوتية المغلقة
الكهنوت—بمعناه الاجتماعي والفكري—ليس مرتبطاً بدين معيَّن، بل هو بنية فكرية تقوم على:
- احتكار المعرفة
حيث يتحول العلم إلى طبقة نخبوية ترى نفسها المخوّلة الوحيدة للفهم والتفسير. - إغلاق باب الاجتهاد
فيصبح كل جديد بدعة، وكل نقد خطيئة، وكل محاولة لتطوير الفهم اعتداءً على "التراث" أو على أصحاب السلطة الدينية العلمية الكهنوتية. - إضفاء القداسة على الأشخاص لا على الفكرة
فيُنظر إلى الأشخاص باعتبارهم معصومين، فتتوقف العقول عند حدود أقوالهم، وتُعامل آراؤهم كمسلمات نهائية لاجدال ولا نقاش حولها.
هذه الكهنوتية الفكرية—حتى لو لم تُعلن نفسها—تنتج مجتمعاتٍ جامدة، تخاف السؤال، وتكره المخالفة، وتعيش أسيرة الماضي دون القدرة على التطور.
تعطيل العقل وثمنه الحضاري
العقل هو جوهر الإنسان وأداته لفهم هذا الملكوت العظيم الذي خلقه الله تعالى. وعندما يتحول العقل من محرّك للمعرفة إلى تابعٍ للسلطة الكهنوتية ، يصبح الفكر والبحث والمعرفة في حالة شللٍ حضاري.
تعطيل العقل يعني:
- غياب روح البحث والاكتشاف
- تكرار القديم دون وعي
- خوف الأجيال من التجديد
- موت النهضة قبل أن تبدأ
إنّ الأمم التي تقدّم العقل على النقل الجامد تصنع حضارة. والأمم التي تجعل النقل مقدساً والعقل تابعاً، تتحول إلى نسخة مكررة من قرون غابرة.
تسقيط المخالف: من الرأي إلى الخصومة ثم التكفير
من أخطر نتائج التعصّب وتقديس الأشخاص هو تسقيط المخالف بدل مناقشة رأيه، ويصبح الحوار معركة، والاختلاف خيانة، ويُقاس الحق بمن قاله لا بقوة الحجة والدليل.
فتظهر عبارات من قبيل :
- "من خالف الشيخ فهو ضال"
- "من ناقش التراث فقد طعن في السلف"
- "لا يُقرأ إلا لفلان، ولا يُسمع إلا لفلان“
- العلماء والمشايخ حكموا على هذه المسائل مسبقاً وعلينا التمسك بأقوالهم.
وعوضاً عن تلاقح الأفكار وتنمية المعارف، يصبح المجتمع كتلة من الاتهامات بدلاً من الحجج والأدلة العقلية والمنطقية ، ومن الشتائم وسوء الأدب وشحة الأخلاق، بدلاً من أدب الحوار والنقد البناء .
المشايخ والوعاظ بشر… وليسوا آلهة
لا أحد ينكر فضل بعض المشايخ في الدعوة الى التوحيد وتصحيح العقيدة، لكن الاعتراف بفضلهم لا يعني تحويلهم إلى معصومين.
الشيخ يصيب ويخطئ، يعقل ويجهل، يجتهد ويتراجع. ومن حقّه أن يُنقد، ومن واجبه أن يُراجع.
الحكمة ليست في من خالف المشايخ في آراءهم، ولا في تأليه المشايخ، بل في إحترامهم دون تعطيل للعقل، وفي الاستفادة من تراثهم ومراجعته دون أن نجمّد ونتوقف فيه.
نحو عقل نقديّ يحرّر المعرفة
لكي نكسر الدائرة الكهنوتية المُقفلة، لا بد من:
- إحياء ثقافة السؤال
- احترام المشايخ دون تعصّب لهم
- التمييز بين الوحي ( القرآن ) وبين واجتهاد البشر
- فتح الباب للنقد العلمي الرصين وإلتزام أدب الحوار
- عدم تحويل العلم إلى هرم سلطوي كهنوتي مُغلق
الخاتمة
التعصب للمشايخ والوعاظ وتقديس أقوالهم ليس علامة وفاء للتراث، بل علامة خوف من التجديد. والمنظومة الكهنوتية التي تحاصر العقول هي ذاتها التي تعطّل تقدّم الأمم. ولا ينهض مجتمعٌ إلا حين يحرّر العلم من القدسية، وعلماء الدين من العصمة، والفكر من الأسر.
فالحق أكبر من الأشخاص… والعقل بوابة النهضة.. والبحث طريق الوصول الى الحقيقة
- أبوالحارث الدليمي -







إرسال تعليق