قصة الإخوة الثلاثة والبيت العراقي
كان هناك بيتٌ عتيق واسع الأروقة، حملت جدرانه رائحة التاريخ وثقل السنين. عاش فيه ثلاثة إخوة جمعتهم السُّقوف ذاتها، لكن أفكارهم كانت تتباعد كل يوم كما تتباعد الطرق عند مفترق الأتجاهات.
الأخ الأكبر.. كان بسيطًا طيّب القلب، ساذجًا أحيانًا، مثقلًا بإرثٍ ثقيل تركه لهم والدهم الراحل. آمن أن البيت لا يليق به إلا موحدًا، وأن الأخوة إن افترقوا تفرّق الخير معهم. تمسّك بفكرة البيت الواحد، وسعى أن يكون جسرًا بين روحي أخويه، يحاول أن يصالح، أن يجمّل الشرخ، أن يُقنعهما بأن البقاء معًا أقل ألمًا من التشظّي. ولكنه، على طيبته، لم يكن يرى أن الجدار المتصدع إن لم يُرمّم قد ينهار على رؤوس ساكنيه.
أما الأخ الثاني، فكان عاصفًا كريحٍ لا تستقر. حمل في داخله عُقدًا قديمة وسوادًا لا يعرف السلام. تمرد على كل شيء، على البيت، على أخويه، وربما على نفسه. كان كثير الغضب، تجرّه الأصوات التي تأتي من وراء السياج، أصوات جيران السوء الذين ورثوا عنه الكراهية وتغذوا من غضبه. كانوا يهمسون له:
«ما قيمة البيت إن لم يكن لك وحدك؟ أحرقه… اقطع الورثة… اطمس الماضي.»
فكان يستجيب. حاول حرق البيت مرارًا، لا يملك خوفًا ولا انتماءً، كأن النار التي يضرمها كانت امتدادًا للنار التي أضرمها منذ زمن بعيد.
وأما الأخ الأصغر، فقد كان أكثرهم حكمة وبصيرة، ينظر إلى الواقع بعينٍ ثاقبة لا تخدَعها العاطفة. أدرك أن البيت الموحَّد لم يعد مكانًا آمنًا، وأن ما تبقى من السقف لا يكفي لحماية الجميع. فبنى جدارًا يفصل بينه وبين أخويه، ليس كرهًا، بل صونًا للسلام. فتح بابًا مستقلًا، عمل ليلًا ونهارًا من أجل عائلته، إختار أن يبقى قريبًا من البيت بجسده، ومنفصلًا عنه بروحه. صبر واجتهد، حتى أذن الله له بأن يبني بيتًا خاصًا به وبأبنائه، بيتًا مستقرًا لاتطاله نيران الأخ الثاني ولا إصرار الأخ الأول.
وفي الوقت الذي كان الأصغر يبني، كان الأكبر يتراجع. ذبلت أحلامه بوحدةٍ لم تعد ممكنة، وبأخٍ لم يعرف أن الحب لا يُفرض بالقوة. ومع مرور الزمن بلغ السوء مداه؛ إذ أقدم الأخ المتمرّد على قتل عائلة أخيه الأكبر وتشريدهم، وبدافع الحقد الذي تربى عليه، وإرضاءً لجيران السوء الذين أغروه بإحراق كل شيء حتى لم يبقَ حجرٌ على حجر. ولم يكتفي بذلك بل فتح الباب لجيرانه بسرقة البيت!
وهكذا حدث للعراق…
البيت العراقي يشبه بيت الإخوة الثلاثة.
سكانه مختلفون في الفكر والتوجه والهوية، قد تجمعهم الأرض ولكن تفرّقهم الرؤية. لا يمكن لبيت واحد أن يحتوي تلك الصراعات بلا نظام يحمي كل طرف من الآخر، ولا يمكن أن يستمر الدم تحت سقف واحد دون أن يُغرق الجميع.
ولعل الحل هو الفيدرالية؛ أن يكون لكل ابنٍ من أبناء البيت مساحةٌ آمنة، بابه الخاص، حكمه الذي يحميه ويمثّله، ويبقى الرابط الأعلى جامعًا بينهم دون صراع أو استبداد.
فالبيوت لا تنهار حين تُقسَّم بحكمة،
لكنها تنهار حين يُراد لها أن تبقى موحدة بالقوة.
أبوالحارث الدليمي







إرسال تعليق