أسطورة الإجماع على كتاب البخاري

الكاتب: مركز الفكر الرابع للدراسات والبحوث العلميةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق


أسطورة الإجماع على كتاب البخاري

من بين أكثر الأفكار رسوخاً في الوعي التقليدي أن صحيح البخاري قد حظي بإجماع الأمة الإسلامية، وأن كل حديث ورد فيه مقطوع بصحته، لا يقبل النقاش ولا الاجتهاد. ويُبنى على هذه الدعوى كثير من أحكام التكفير والمنع والتجريم، وكأن مجرد التساؤل أو إعادة النظر خروج من الدين أو مساس بمقدس.

وفي الحقيقة، فإن عبارة "أجمعت الأمة" تحولت إلى حصنٍ يُحظر الاقتراب منه، رغم أن مجرد التحقق من هذه الدعوى يكشف أنها واحدة من الأساطير التي رُوّج لها عبر القرون، حتى غدت وكأنها حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل.

وليس من الحكمة أن نبقى أسرى لهذه التصورات الموروثة دون فحص أو تمحيص، خاصة أن القرآن نفسه يدعونا إلى التدبر والنظر:
{
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (النساء 82).

الإجماعكلمة قال عنها مشايخ الحديث : من ادّعاه فقد أخطأ

رُوي عن أحمد بن حنبل قوله:
"
من ادّعى الإجماع فقد كذب."
وهو تصريح صريح بأن الإجماع مسألة شديدة التعقيد، فكيف يُقال بتحققه على كتاب كامل يضم آلاف الأحاديث ومسائل الرجال والعلل والطرق؟

إن النظر في كتب التراث يكشف أن عدداً كبيراً من المحدثين والفقهاء خالفوا هذه الأسطورة. وبعضهم فضّل كتباً أخرى على صحيح البخاري، وعلى رأسها موطأ مالك.

الموطأعند كثيرين أصح الكتب بعد القرآن

خلافاً للفكرة المتداولة اليوم، فقد صرّح غير واحد من أعلام العلماء بأن الموطأ هو الكتاب الأصح بعد القرآن «مع تحفظي على كلمة أصح الكتب بعد القرآن»، ومن ذلك:

  • قول الشافعي:
    "
    ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك."
  • وقال ابن عبد البر:
    "
    الموطأ لا مثيل له، ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله."
  • وقال القاضي أبو بكر بن العربي:
    "
    كتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول."

بل نقل عدد من المشايخ المتأخرين، مثل الشنقيطي والفلّاني ووليّ الله الدهلوي، تفضيل الموطأ وتقديمه على صحيح البخاري، معتبرين أنه أصح الكتب وأدقها من حيث الصناعة الحديثية.

حتى البخاري نفسه عدّ "مالك عن نافع عن ابن عمر" أصح الأسانيد، كما نقل ابن الصلاح.

الانتقادات على الصحيحمن داخل البيت الحديثي ذاته

من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أن علماء الحديث تلقوا كل ما في الصحيحين بالقبول المطلق. لكن الواقع التراثي يخبرنا بعكس ذلك:

فقد انتقد مئات المحدثين أحاديث في الصحيحين، ومنهم:

  • أحمد بن حنبل
  • يحيى بن معين
  • علي بن المديني
  • أبو داود
  • النسائي
  • الدارقطني
  • العقيلي
  • ابن عبد البر
  • ابن حزم
  • ابن تيمية
  • ابن القيم
  • الألباني

وهؤلاء جميعاً من كبار المحدثين، وليسوا "خصوماً" للتراث أو لأهل السنة.

بل إن البخاري نفسه انتقد أحاديث في صحيح مسلم، كما نقلت كتب الرجال والعلل.

وقد ضعّف العقيلي أحاديث موجودة في البخاري ومسلم معاً. وانتقد ابن تيمية وابن القيم أحد ألفاظ صحيح مسلم في مسألة "إنشاء خلق جديد" وعدّاه شاذاً.

«فأين هو الإجماع؟ وكيف يكون إجماعاً وقد خالفه كبار العلماء؟»

أسطورة تُستخدم لتقديس الكتاب لا لتقييمه

ليست المشكلة في صحيح البخاري ذاته، فهو جهد بشري، ولا في كتّابه الذين اجتهدوا بحسب ما توفر لهم من أدوات ومعايير.
المشكلة في جعل هذا الجهد البشري معصوماً، ووضعه في مرتبة لا تصح إلا للقرآن.

إن القول بقداسة كتب الحديث، أو الإيحاء بأن من يناقشها فقد تعرض للدين، أدى إلى تضييق مساحة العقل والاجتهاد، وإلى اتهام كل باحث أو ناقد بالخروج عن الجماعة.

ليس الغرض من عرض هذه الأقوال نصرة كتاب على كتاب، ولا تقليل شأن أحد من العلماء، فالجميع بشر يصيبون ويخطئون.
الغاية هي إبطال دعوى الإجماع التي حوّلت صحيح البخاري إلى نص مقدس لا يُراجع، مع أن علماء الأمة عبر القرون مارسوا نقده وناقشوا أحاديثه، وأبدوا ملاحظاتهم عليه بكل وضوح وشجاعة.

وإذا كان القرآن نفسه يدعونا إلى التفكر والتدبر، فكيف يُمنع ذلك عن كتب البشر؟

أختم بقول الله تعالى في كتابه الكريم:

{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) النساء


- أبوالحارث الدليمي -


شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

5530503018128628799

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث