دور العثمانيين والبريطانيين في إضعاف وتقسيم الجزيرة الفراتية
تُعدّ الجزيرة الفراتية من أكثر أقاليم المشرق العربي أهميةً من حيث الموقع الجغرافي، الثقل السكاني، والتماسك الاجتماعي، إذ شكّلت عبر قرون طويلة قلبًا بشريًا واقتصاديًا وعسكريًا للعرب السُّنة في شمال العراق وشرق الشام وجنوب الأناضول.
غير أنّ هذا الإقليم، الذي كان مؤهلاً تاريخيًا ليكون نواة كيان سياسي عربي قوي، تعرّض لعملية إضعاف تدريجية في العهد العثماني، ثم تفكيك متعمّد في المرحلة الاستعمارية البريطانية، ضمن سياق دولي خشي من قيام قوة عربية متماسكة جغرافيًا وبشريًا، ومرتبطة طبيعيًا بالجزيرة العربية والدولة السعودية الناشئة آنذاك.
أولًا: الجزيرة الفراتية قبل العثمانيين – إقليم متماسك وقوي
قبل السيطرة العثمانية (1516م)، تمتعت الجزيرة الفراتية بعدة خصائص جعلتها إقليمًا قويًا:
- وحدة جغرافية طبيعية بين دجلة والفرات.
- غلبة عربية سُنّية مع عشائر قوية (ربيعة، شمر، عنزة، الجبور، العقيدات، الدليم).
- اقتصاد زراعي وتجاري نشط (قمح، شعير، مواشي، طرق قوافل).
- موقع عسكري استراتيجي يربط العراق بالشام والأناضول والجزيرة العربية.
في العصور السابقة، كانت الجزيرة ولاية واحدة أو عدة ولايات متكاملة إداريًا وعسكريًا، ولم تكن هامشًا تابعًا بل مركز ثقل.
ثانيًا: دور العثمانيين في إضعاف الجزيرة الفراتية
1. سياسة الإهمال الإداري والتهميش المتعمّد
اعتمد العثمانيون على إدارة مركزية صارمة من إسطنبول، لكنهم تعاملوا مع الجزيرة كمنطقة طرفية مضطربة، وليس كإقليم تنموي:
- ضعف الاستثمار في الزراعة والري.
- إهمال المدن الداخلية (الرقة، دير الزور، الموصل الريفية).
- الاكتفاء بالجباية دون تطوير.
هذا الإهمال أدى إلى تراجع الاستقرار الاقتصادي وتحول أجزاء واسعة إلى نمط عشائري دفاعي.
2. تفتيت الجزيرة إداريًا
لم يُبقِ العثمانيون الجزيرة ولاية واحدة، بل قسّموها إلى ولايات متفرقة:
- ولاية ديار بكر
- ولاية الموصل
- ولاية الرقة (لفترة قصيرة)
- ولاية بغداد
هذا التفتيت:
- كسر وحدة القرار.
- أضعف التواصل بين العشائر والمدن.
- سهّل السيطرة ومنع تشكّل قيادة إقليمية موحدة.
3. سياسة ضبط العشائر بدل دمجها
بدل استيعاب العشائر العربية السنية في الدولة، اتبع العثمانيون سياسة:
- إثارة الخلافات بين العشائر.
- استخدام بعضها ضد بعض.
- الاعتماد على القوة العسكرية والعقاب الجماعي.
ما أدى إلى:
- إضعاف البنية السياسية للعرب السنة.
- ترسيخ عدم الثقة بين المجتمع والدولة.
4. تحجيم الدور العسكري والسياسي للجزيرة
الجزيرة كانت تاريخيًا مصدرًا للجند والقيادات العسكرية، لكن العثمانيين:
- قلّصوا دورها العسكري.
- أبعدوا أبناءها عن مراكز القرار.
- فضّلوا الاعتماد على الإنكشارية والولاءات غير المحلية.
ثالثًا: انهيار الدولة العثمانية وفتح الباب للتقسيم البريطاني
مع الحرب العالمية الأولى، انهارت السلطة العثمانية، فوجدت بريطانيا نفسها أمام إقليم:
- عربي سُنّي واسع.
- متصل جغرافيًا من الموصل إلى دير الزور فالأنبار.
- عشائري متماسك.
- قريب اجتماعيًا ودينيًا من نجد والحجاز.
وهنا بدأ القلق البريطاني الحقيقي.
رابعًا: الدور البريطاني في تقسيم الجزيرة الفراتية
1. الخوف من قيام دولة عربية سُنّية قوية
كانت بريطانيا تخشى من:
- نشوء دولة عربية سنية كبيرة في قلب المشرق.
- اتصالها الطبيعي مع الدولة السعودية الناشئة (الدولة السعودية الثالثة بعد 1902).
- امتلاكها موارد بشرية وزراعية ونفطية لاحقًا.
دولة كهذه كانت ستشكّل:
- تهديدًا للمصالح البريطانية.
- قوة مستقلة خارج السيطرة الاستعمارية.
- عامل توحيد للعرب السنة من العراق إلى الجزيرة العربية.
2. ترسيم حدود مصطنعة (سايكس – بيكو وما بعدها)
قامت بريطانيا بـ:
- فصل الجزيرة بين العراق وسوريا.
- اقتطاع الموصل وإلحاقها بالعراق الملكي.
- فصل دير الزور والرقة والحسكة ضمن سوريا الانتدابية.
- ترك ديار بكر داخل تركيا.
هذه الحدود:
- قطعت العشائر بين ثلاث دول.
- دمّرت وحدة السوق والقرار.
- حوّلت الجزيرة من إقليم واحد إلى أطراف مهمشة.
3. استخدام الأقليات كعازل سياسي
اتبعت بريطانيا سياسة:
- تعزيز هويات فرعية (إثنية أو مناطقية).
- دعم إدارات غير عربية في بعض المناطق.
- منع تشكّل هوية سياسية جامعة للعرب السنة.
ليس بالضرورة حبًا بالأقليات، بل كوسيلة تفكيك وتوازن قوى.
4. إقامة دول ضعيفة بدل إقليم قوي
بدل السماح بقيام دولة عربية قوية:
- أنشأت بريطانيا دولًا مركزية ضعيفة.
- جعلت الجزيرة هامشًا تابعًا للعواصم (بغداد، دمشق).
- حرمتها من التمثيل السياسي الحقيقي.
خامسًا: العلاقة مع الدولة السعودية الناشئة
في تلك المرحلة:
- كانت الدولة السعودية الثالثة تتوسع.
- تحمل مشروعًا دينيًا وسياسيًا عربيًا سنيًا.
- ترتبط اجتماعيًا بعشائر الجزيرة (شمر، عنزة، مطير وعشائر أخرى).
خشيت بريطانيا من:
- تحالف عقائدي – قبلي.
- امتداد النفوذ السعودي شمالًا.
- تشكّل محور عربي سني مستقل عن الهيمنة البريطانية.
لذلك:
- دعمت كيانات فاصلة.
- رسمت حدودًا تمنع التواصل الطبيعي.
- أبقت الجزيرة مقطعة سياسيًا حتى اليوم.
لم يكن إضعاف الجزيرة الفراتية حدثًا عابرًا، بل مسارًا تاريخيًا متدرجًا:
- العثمانيون أضعفوها بالإهمال والتفتيت الإداري.
- البريطانيون أكملوا المهمة بالتقسيم السياسي المتعمّد.
- الهدف النهائي: منع قيام قوة عربية سُنّية مركزية في قلب المشرق، متصلة بالجزيرة العربية.
ولا تزال آثار هذا التفكيك ماثلة حتى اليوم في:
- هشاشة الاستقرار.
- ضعف التنمية.
- النزاعات والهويات المتصارعة.







إرسال تعليق