حديث افتراق الأمة بين تصحيح الترمذي وتضعيف ابن حزم
- دراسة حديثية نقدية في الميزان المنهجي -
يُعَدّ حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة من أكثر الأحاديث تداولًا في الجدل العقدي المعاصر، خصوصًا في باب ”الفرقة الناجية“ والحكم على المخالف. وقد اختلف النقاد في تصحيحه وتضعيفه اختلافًا بيِّنًا، بين من حسّنه أو صحّحه كالترمذي، ومن أبطله رأسًا كالعالم ابن حزم الأندلسي. ويهدف هذا المقال إلى دراسة هذا الخلاف دراسة حديثية نقدية، من خلال: بيان منهج الترمذي في التصحيح، وبيان حال الحاكم النيسابوري، ثم عرض موقف ابن حزم، وأخيرًا تقديم تخريجٍ مُفصّل لأشهر طرق الحديث، مع دراسة حال رواته من كتب الجرح والتعديل، وصولًا إلى حكم علمي متوازن.
أولًا: تمهيد في خطورة الاستدلال بحديث الافتراق
ليس الخلاف في حديث افتراق الأمة خلافًا نظريًا محضًا، بل ترتّبت عليه آثار عقدية خطيرة، من أبرزها:
- توظيف الحديث في تبديع الفرق وتضليلها.
- بل استعماله أحيانًا في التكفير الصريح أو الضمني.
- احتكار ”النجاة“ لطائفة بعينها (أدعياء السلفية المعاصرة).
ولهذا كانت الحاجة ماسّة إلى دراسة الحديث دراسة حديثية صِرفَة، بعيدًا عن التوظيف المذهبي أو الدعوي والحزبي .
ثانيًا: منهج الترمذي في التصحيح وحدوده العلمية
أبو عيسى الترمذي (ت 279هـ) الذين جمعوا الحديث، وصاحب السنن المشهورة. غير أن منهجه في التصحيح ليس على طريقة البخاري ومسلم في الجزم بالصحة المطلقة، بل يقوم على قواعد منها:
- تقوية الحديث بمجموع الطرق ولو كان في كل طريق ضعف محتمل.
- استعماله مصطلحات:
صحيح حسن، حسن، صحيح
- اعتماده على الشواهد والمتابعات والمراسيل في بعض المواطن.
ولهذا قرر نُقاد الحديث أن:
تصحيح الترمذي ترجيحي لا قطعي، ويُناقَش ولا يُسلَّم له مطلقًا، خاصة عند التعارض مع علماء النقد المتشددين.
ومن هذا الباب جاء حكمه على حديث افتراق الأمة بقوله:
”حديث حسن صحيح“.
ثالثًا: حال الحاكم النيسابوري ومنهجه في”المستدرك“
الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) صاحب كتاب المستدرك على الصحيحين، لكن العلماء أجمعوا على تساهله الشديد في التصحيح، حتى قال الذهبي تعقيبًا على المستدرك:
”فيه أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة“.
أما من جهة الانتماء العقدي:
- فالحاكم متشيّع، وعلى منهج بني العباس
ولهذا اتفق النقاد أن:
تصحيح الحاكم لا يُحتجّ به إلّا إذا وافقه غيره من الحفاظ.
رابعًا: موقف ابن حزم من حديث الافتراق
العالم ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) من أشدّ النقّاد صرامةً في باب الحديث. وقد صرّح في كتابه الفصل في الملل والنحل بقوله:
”خبر افتراق الأمم خبر مكذوب باطل لا يصح من وجهٍ من الوجوه“.
وأساس حكمه هذا قائم على أصوله الحديثية، وأبرزها:
- عدم قبول تقوية الضعيف بالضعيف.
ردّ كل حديث:
- فيه راوٍ ضعيف - أو متروك - أو مدلس - بالعنعنة
- اعتبار الاختلاف الشديد في ألفاظ الحديث دليل اضطرابه.
- اعتباره زيادة: ” كلها في النار إلا واحدة “ زيادةً منكرة لا تثبت.
ولهذا فرّق ابن حزم تفريقًا واضحًا بين:
- وقوع الافتراق واقعًا: لا يُنكره.
- وبين تحديد العدد بـ 73، والحكم بالنار، وتعيين الناجية: يراه غير ثابت شرعًا.
خامسًا: التخريج الحديثي الموجز لأشهر طرق الحديث
بعد تتبّع طرق حديث افتراق الأمة في السنن والمسانيد، يتبيّن أن جميع أسانيده لا تخلو من راوٍ ضعيف أو مختلف فيه، وأبرز الطرق:
1. طريق الترمذي عن عبد الله بن عمرو
وفيه:
- عبد الرحمن بن زياد الإفريقي
- قال أحمد: ”ليس بشيء“
- وقال ابن حبان: ”يروي المناكير“ ضعيف جدًا.
- عبد الله بن يزيد
- قال النسائي: ”ليس بالقوي“ صدوق فيه لين.
2. طريق أبي داود عن أبي هريرة
وفيه:
- محمد بن عمرو بن علقة
- قال أحمد: ”حديثه يُكتب ولا يُحتج به“
- وقال ابن معين: ” ليس به بأس “
مختلف فيه، صدوق له أوهام.
3. طريق ابن ماجه عن أنس
وفيه:
- الوليد بن مسلم
- قال ابن حجر: ” يدلس تدليس التسوية “
صدوق كثير التدليس
- محمد بن عمرو
مختلف فيه.
4. طريق مسند أحمد عن معاوية
وفيه:
- أزهر بن عبد الله الهوزني
- قال أبو حاتم: ”منكر الحديث“
- وقال ابن عدي: ”أحاديثه غير محفوظة“
ضعيف جدًا.
5. طرق أخرى
وفيها:
- عبد الله بن لهيعة
- قال أحمد: ”لا يُحتج به“
- قال ابن معين: ”ضعيف“ ضعيف لسوء الحفظ
سادسًا: الخلاصة التخريجية
من خلال الدراسة التخريجية يتبيّن بوضوح أن:
- لا يوجد طريق واحد للحديث سالم من الجرح.
- الحديث يدور في جميع طرقه على رواة:
ضعفاء - أو مختلف فيهم - أو مدلسين
لذلك:
- الترمذي حسّنه بمجموع الطرق وهذه لوحدها كارثة عند هؤلاء، إذ كيف يتم تصحيح حديث او تحسينه بهذه الطريقة الغير مقبولة عقلاً ومنطقاً؟! حيث يتم جمع طرق واسانيد كلها ضعيفه ومُنكرة ثم يتم الحكم عليها بالصحة!!
- ابن حزم أسقطه لانعدام الطريق السالم وإبن حزم يُضعِّف الحديث للأسباب التالية:
- اضطراب الأسانيد
- ضعف جميع طرقه عنده
- اختلاف ألفاظه اختلافًا شديدًا جدًا
- زيادة "كلها في النار إلا واحدة" يراها منكرة
- زيادة "ما أنا عليه وأصحابي" لا تصح عنده
ويؤكد أن:
- جميع رواياته لا تخلو من راوٍ متروك أو ضعيف أو انقطاع.
سابعًا: أثر هذا الخلاف في مسألة ”الفرقة الناجية“
بناءً على ما سبق:
- لا يصحّ بناء:
التكفير - أو التفسيق العام - أو احتكار النجاة على حديثٍ مختلف في ثبوته أصلًا.
حتى على قول من حسّنه:
فإن أكثر النقاد الذين صححوا الحديث وأثبتوا الزيادة أوّلوا معنى ”في النار“:
- بأنه وعيد لا يقتضي الخلود
- أو أنه على حسب الذنوب
- لا على الكفر والخروج من الإسلام
- وهذا كله مجرد ترقيع لهذه الزيادة الخطيرة في متن الحديث.
ثامنًا: النتيجة العلمية النهائية
- يمكن تلخيص المسألة في النقاط الآتية:
1- حديث افتراق الأمة:
- مختلف في ثبوته.
- لم يثبت بطريقٍ سالم من العلل.
- تصحيح الترمذي مبني على منهج التقوية بالمجموع.
2- تضعيف ابن حزم مبني على:
- أصول حديثية صارمة.
- تتبّع دقيق لعلل الأسانيد.
3- الزيادة:
” كلها في النار إلا واحدة “
لا يصحّ الاحتجاج بها في التكفير أو التبديع العام.
4- الاستدلال بالحديث لإلغاء المخالفين:
- استدلال غير منضبط علميًا..لا عقلاً ولا منطقاً.
ختاماً..
إن حديث افتراق الأمة مثال واضح على أثر الاختلاف المنهجي في النقد الحديثي في بناء المواقف العقدية والمنهجية. فبينما رأى الترمذي أن تعدد الطرق يرفعه إلى درجة القبول، رأى ابن حزم أن جميع تلك الطرق معلولة لا تقوم بها حجة. ومن هنا يتبيّن أن توظيف هذا الحديث في الصراع المذهبي دون وعي بأصوله الحديثية يمثل خطأً علميًا جسيمًا، ومخالفةً واضحة لمقاصد الشريعة في حفظ وحدة الأمة ومنع التباغض والتكفير الذي يؤدي الى مزيد من التفرق والضعف في مجتمعات الأمة السُنية المسلمة.
الأستاذ : أبوالحارث الدليمي







إرسال تعليق